Atwasat

لقطات كورونوية (4)

جمعة بوكليب الخميس 16 أبريل 2020, 09:40 صباحا
جمعة بوكليب

زمان، حين كانت أمي تقول لي مؤكدة أن «أيام الله سوا»، كنت موقنا، رغم صغر سني، بخطئها. وكنت كثيرا ما أدخل معها في جدال طويل لإقناعها بعكس ذلك. لكني، فيما بعد، تبين لي خطئي، واتضح بالتجربة صحة قولها مرتين: المرة الأولى حين وجدتني خائضا في أوحال قذارة السجن، والمرة الثانية خلال أزمة الوباء الحالية. إذ لا شيء يميز يوما عن آخر في الحالتين، حين يكون المرء مرميا بين أربعة جدران في سجن وتحت حراسة، أو في بيته محجورا بأوامر حكومة خشية الإصابة بالوباء. وسواء أكان اليوم سبت أو أحد أو خميس لا يغير شيئا في واقع الأمر. ذلك أن العلاقة بالأيام وتذكرها يرتبط أساسها بما يمكن أن يحققه المرء فيها من عمل وعلاقات ومكاسب وخسائر.. إلخ. أما حين يكون بين جدران بيته، كحالنا هذه الأيام النحسة، هربا من الإصابة بفيروس قد يقضي على حياته، فأيام الله سواء حقا، ولا شيء يستدعيه لأن يتعب نفسه ويشقيها بمحاولة تذكر اسم اليوم. فساعات أي يوم منذ بدايته وحتى نهايته متشابهة، مثقلة بعراجين ضجر، وبضيق خواطر، والإحساس بتعب ناجم عن كثرة البقاء في الحجر بناء على تعليمات صادرة عن حكومات، لم تكن يوما، ولن تكون، مهتمة بالحفاظ على صحته، أو على حياته، وكل ما يهمها هو أن تحجره وغيره في بيوتهم، لكي لا يصابوا بالوباء، وتضطر لإنفاق مال على علاجهم.

قد يرى البعض أن ما ذكرته أعلاه، رد فعل نفس ضجرة سجينة، ومبالغة زائدة عن الحد، وهذا صحيح إلى حد ما. لكن ماذا يفعل المرء منا حين يكون محجورا، وممنوعا، بقوة القانون، من الخروج من بيته صباحا، أو في أي وقت من أوقات النهار، ومدركا، في نفس الوقت، أنه طوال ساعات قادمة، طويلة، وكي لا يموت مللا، سيلزم نفسه بفعل أشياء لا مزاج له بفعلها، أو أن يجلس على كنبة محدقا في شاشة تلفاز متابعا أخبار تفاقم أعداد الموتى، لحظة بلحظة، في مختلف بقاع العالم، من دون أن يستطيع تحريك إصبع واحد؟

2
لا شك في أن المفاجأة سرقت فرحته. ألقت بماء بارد على جمر اختياله وآماله وتوقعاته، وأطفأت توهجه، وبعثرت ضحكاته أشلاء. لكنه، رغم ذلك، لم يبتئس، ولم يشعر بحزن.

الربيع، ليس كالبشر، لا يخون طبيعته. من طبيعة الربيع أن يكون مرحا فرحا بهيجا مفعما بطيب روائح العطور، ملتحفا بألوان قوس قزح. من طبيعة الربيع أن يأتي مثقلا بسلال محملة بالأمل والسلام والأمان، وبتجدد الحياة، بالخضرة، وبالدفء. من طبيعة الربيع أن يكون خصما شرسا للخذلان، أن يقذف بالفرح وبالخصب والنماء والإيناع على الحزن واليباس والموت فيصرعهم، وأن يمسك بالتشاؤم من تلابيبه ويلقي به في صحراء النسيان، وأن يقدم على حبيبته الحياة بشغف عاشق ليخصبها بما في قلبه وروحه من حيوات عديدة، لتنهض من كبوات الشتاء، كما تشتهي.

هذه السنة، وقبل أن يصل بأيام عديدة، محملا بسلال هداياه، أرسل بدفء صحو نهاراته رسولا مبلغا بقرب الوصول. وأيقظ، سرا، شجر الدنيا من سباته استعدادا، وأحاط، همسا، عشب الحدائق في كل المدن بموعده. وها هو يصل، أخيرا، ليجد أن لا أحد في استقباله والاحتفال بمقدمه.

ها هو الربيع حاضر بيننا، ليعيد، ككل عام، للأرض زخرفها المفقود، وليلون السموات ببهجة ألوان صحوه، فإذا بالمفاجأة تتملكه لدى حلوله، ولتسرق فرحته وضحكته واختياله، وليجد نفسه يجوب شوارع وأحياء مدن في حالة موات. هرب قاطنوها مختبئين وراء الحجر وأعمى الخوف من الموت بصائر قلوبهم فأغلقوها دونه وتركوه وحيدا، واقفا على أبوابها، المغلقة متسولا ظل ابتسامة هاربة، مرحبة بقدومه.

3
التعليقات والتحليلات التي تنشر وتذاع، منذ أن بدأت أزمة فيروس «كورونا»، تجمع على أن العالم لن يعود كما كان قبلها. لكني أسمح لنفسي بتذكيركم أن تعليقات وتحليلات، بعلو وثقل جبال، قيلت وكتبت ونشرت وأذيعت خلال الأزمة المالية التي هزت أركان العالم الرأسمالي العام 2008.. ما حدث خلال تلك الأزمة من اضطرابات على مستوى العالم كادت تقضي على النظام الرأسمالي العالمي برمته، وتحيله أنقاضا. وما قيل ونشر من تحليلات تؤكد أن الأزمة ستغير العالم، وأن عالم ما بعد الأزمة سيكون مختلفا، لم يتحقق شيء منها على أرض الواقع، باستثناء تغييرات وضوابط طفيفة سعت إلى إغلاق ما وجد من ثغرات في النظام المصرفي الدولي. وشاهدنا كيف أن العالم، بعد تلك الأزمة الطاحنة، وبعد فترة زمنية تعد قصيرة نسبيا، قد عاد إلى كامل سيرته الأولى، وسرعان ما نسي أهله ما قيل وما نشر من تنبؤات، وعادوا إلى الخوض فيما تعودوه قبلها.

هذه المرة، أيضا، ورغما عن كل التنبؤات، وبعد سنوات قليلة على تلاشي أزمة تفشي الوباء، سيعود قطار العالم تدريجيا، إلى مواصلة رحلته، على نفس حديد قضبانه، وسنعاود، نحن سكانه، شكاوانا من نفس مشاكله وأحواله.