Atwasat

قضايا وفن الغياب.

رافد علي الإثنين 13 أبريل 2020, 10:57 صباحا
رافد علي

على صفحة موقع برنامج حماية البيئة التابع للأمم المتحدة تأكيدات بأن الطبيعة مستفيدة جداً من وضعية العالم في إجازة، فالمياه ببعض المناطق أصبحت صافية اكثر، وأن بعض المدن أصبحت مزدانة بوضوح تغاريد الطيور ونظافة الهواء، ففيروس كورونا رغم شراسته التي يشهرها في وجوهنا، يمنح البشر فرصة لمراجعة نمط و طريقة حياتهم بالصورة المعتادة قبل سطوته الوبائية الحالية من خلال فرض احترام أكثر للطبيعة، والاهتمام بشكل أعمق بكوكب الأرض الذي أمسي منهكاً ويتوسع الخرم في غلافه الجوي بسبب الاستهتار في الاستهلاك توابعه في رفع معدلات التلوث البيئي. ما نعيشه اليوم مع كورونا يجبرنا على الإيمان بأنه لا يجب العودة للحياة بذات الطريقة والأسلوب، إذ يستوجب الحال أن نعمل مع الطبيعة لا ضدها، وأن يرفع الإنسان ضغطه على محيطه الطبيعي من خلال عبثه الغاشم وتدخلاته العنيفة تجاهه، كما يعبر المهتمون بشئون الطبيعة والبيئة في أوربا وأمريكا الشمالية.

يقول دامين كارينغتن، محرر شئون البيئة بصحيفة الجارديان اللندنية أن أبرز العلماء عالمياً يعتبرون أن كورونا تعد "طلقة نار تحذيرية" لما تمارسه المدنية الحديثة من عبث واستهتار بالطبيعة والكوكب،لانها ظلت دائما "مدنيّة تلعب بالنار". وقد دعت إنجير أندرسين، المديرة التنفيذية لبرنامج حماية البيئة التابع للأمم المتحدة في أكثر من مناسبة إلي ضرورة خلق حيز أكبر لاحترامنا للطبيعة، وللرقعة الخضراء في محيطنا البشري وخارجه من خلال عقلانية أعمق في التخطيط للتوسعات البشرية الزراعية والسكانية وتهذيب نمط الاستهلاك اللامسؤل في عصرنا الحالي الذي نوصم فيه بأننا مجتمعات استهلاكية بشكل مفرط.

ففي فرنسا اليوم حيثما تجد "السياسة الخضراء" - أوالصديقة للبيئة- حيزاً يتنامي بشكل لافت على كافة الأصعدة، ترتفع أصوات النقد للحكومة وللسلطات المحلية بالتراخي في المحافظة على وتيرة سياسة إعادة التدوير، وإن كانت نبرة النقد عموماً تبدو هادئة و أقل إثارة كما هي عادة الأمور، خصوصا حينما يكون أحد أعضاء الحكومة ضيفاً على الهواء، وذلك لاتباع سياسة ترمي، حسب الكثير من الإعلاميين بفرنسا، لتجنب حالة الإثارة الإعلامية خلال العطلة الإجبارية التي تقضيها شعوب أوربية عديدة بما يسودها من قلق و توتر وترقب.

من ضمن القضايا أو الدروس التي يهتم بتناولها المثقف في أوربا الآن هي علاقتنا بالمحيط البيئي، باعتبارها القضية الأبرز بعد الانخفاض الملحوظ في معدلات التلوث والضجيج. فقد أضحي بيّناً في الجدلية المطروحة الآن حول كيفية عودة الحياة لوتيرتها الاعتيادية بعد انفراج أزمة كورونا بأنها ستكون "رحلة" لا تخضع فقط لحسابات العلم والإدارة بقدر أنها تستلزم فتح حسابات لأخلاقيات الإنسان تجاه نفسه وتجاه البيئة، واحترام أشد للأرض ككوكب نعيش عليه بشكل غير مسبوق بسبب حالة "موت المسافة" و "انحسار الجغرافيا" وواقعية الأسواق المفتوحة وسهولة اندلاع الكوارث وتفشي الأوبئة المعدية وخطورة انتشارها السريع.

فعلى المستوى الأخلاقي، يقف المثقفون الفرنسيون أمام مدى إنسانية القرار الطبي في إسقاط كبار السن من سلم الأولوية في الرعاية الصحية، وفي مدى غياب الأنسنة في قرار أوربا بضرب طوق العزلة على إيطاليا بعد خروج الوباء عن حالة السيطرة، فالقرار الفرنكوجرماني الذي قاد الاتحاد الأوربي لعزل إيطاليا عن محيطها أثار حفيظة المثقف، وأبرز على السطح مدي القسوة والجبروت في هكذا قرار بأن تجعل دولة جارة و صديقة ومرتبطة مع قارتها بأحلاف ومعاهدات على كافة المستويات، تترك هكذا وحيدةً لتواجه مصيرها وكأنها دولة معادية. الحيرة والدهشة يشغلان حيزاً واسعاً لكل مراقب ومتأمل، ويشيع حالة من عدم الرضي الأخلاقي عن مدى عمق وتجذر النزعة الفردية في أوربا، وتخلق من هذا الاستغراب في الوسط المتنور أو المثقف قضية لازالت محل تجاذب بعيداً عن الحسابات السياسية للعواصم الثلاثة. فهل الدهشة والاستغراب والاستفهام من هذا النوع كان لها حيز في مستوى تفكير المثقف الليبي الذي ينتمي لبلاد تلتهما الحرب، وجهازها الصحي يعد في حالة غيبوبة؟! ألم يتصور المثقف الليبي و"النخب" فيها أمام خطورة الوباء باحتمالية أن تواجه ليبيا ذات القدر الإيطالي إذا ما صارت الجائحة هي سيدة المشهد بالبلاد؟! أليست الفرضية مرعبة لأن تحفز المثقف الليبي لأن يقرع نواقيس الإنذار والتحذير!!.

قد يجادل البعض بأن فرضية العزل الإيطالي هنا قد تسقط مع واقع حال أن الصين تظل مستعدة للمساعدة كما فعلت مع روما، وكذلك من خلال استجابتها السريعة للتعاون والتشاور مع الجارة الجزائر بذات الخصوص، وأن الطبيب المحاصر في كوبا قد هب لمساعدة القوى في مواجهة الأزمة الكورونية بجهد ومثابرة، لكن واقع حالنا يثبت أن بيكين وكوبا لهما حساباتهما السياسية في الحالتين، فالصين، علاوة عن سعيها لخوض غمار صناعة سيارة رياضية على مستوى عالمي، والذي تعتبر إيطاليا من ضمن رواده، فإنها بمساعدتها لإيطاليا بمحنتها ستمنحها صك الثقة والمصداقية عالمياً في مواجهتها للوباء أمام غريمها السياسي والاقتصادي في واشنطن، وأن هافانا تسعي حثيثاً لأن تبني جسراً أوثق مع العالم يساعدها في أن تخرج مما هي فيه من حصار وعزلة دبلوماسية وعوز لتلحق بالعالم من خلال إثبات ثقتها بنفسها كدولة واعدة لازالت تقع تحت ظلم يفرضه القطب الأوحد. ماذا نملك نحن الليبيين إذا أصبحنا فريسة سهلة لهذه الجائحة في خضم هذا الانهيار والسقوط الذي نعيشه سوى النفط المتعثر صناعةً، والذي يثبت الحال أننا نبالغ جداً في اعتباره عنصراً سحرياً قادرا علي تحفيز "الغير" لأن يسعى لحلحلة قضايانا العالقة بنا وبيننا كليبيين منذ سنوات طويلة ومريرة البؤس!!!.

من جهة أخرى، حتى وإن سلمنا فرضاً أن عنصر الإنسانية سيكون عاملاً فعّالاً للسيطرة على الوحش كورونا في ليبيا أسوأ السيناريوهات لا قدر الله، واستبعدنا فرضية المصير الإيطالي بشكله المرعب، باعتبارنا شعبا يعيش في محيط مختلف العقلية والتفكير والتاريخ، لكن القلق سيتجدد من خلال حقيقة أننا نعيش في وسط بلدان محدودة الإمكانيات أساساً، إن معظم هذه الدول تقع في أعلى قوائم الفقر والفساد والتخلف التقني، بما يربك جدا كل الحسابات ويرفع من مستوى التخوفات، وليس التشاؤمية، فنحن في ليبيا رغم كل شئ بما في ذلك من حرب وعدم استقرار وفوضى وعجز مؤسسات، وغياب جوهري للدولة، لازال العالم غير قادر على حسم أمره بخصوص أزمتنا، يردد بشكل دائم على أن الليبيين لازالوا غير مستعدين لتحقيق تنازلات تساهم في تجاوز حالة الصدام الدامي، وتحقيق اختراقات لكسر وضعية الجمود السياسي. باختصار شديد وأمام كل هذه المحن، أننا نقف وحيدين ونحن أصحاء، فما بالك إذا ما أصبحنا بؤرة وباء، وحالة عاجزة لا تقدم إلا الاستغاثة، التي من المرجح أنها وضعية ستجرنا للخوض في مُساومات سياسية لما مازال بين أيدينا بشكل أو بآخر، كأموالنا وأصولنا المجمدة في عدة دول عربية وأعجمية.

حالة السيناريو الأسود أعلاه حتى وإن تركناها جانباً، فحقيقة الحال في التعاطي مع كورونا داخل ليبيا على المستوى العام يثبت أن الطابع الديني يبرز كتدبير وقائي أكثر من أي جهد توعوي آخر مبني على العلم. فالتيار السلفي يقترح وبشكل مكثقف الدعاء والابتهالات كتدبير وقائي بما يتجاوز مضمون الآية الكريمة "إياك نعبد وإياك نستعين"، ويستنهض الدين كمخلص غيبي يأتي بالمعجزة المجانية لتشفينا كوننا المصطفين، وأن الغير جاءته الجائحة كلعنة ربانية. إنها وضعية تحاول أن تفرض القناعة بأن تلك الخزعبلات الدُعائية هي المخلص وليست جهود العلم في المعامل والمختبرات الطبية!. فماذا فعل المثقف حيال جهود السلفية في مواجهة الوباء عبر توظيفها للدين في مواجهة كورونا؟! وماذا فعل أمام استخدام كورونا في صعود خطاب الكراهية الديني ضد الآخر عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟!. تصعب علىّ جداً أن كتابة جوب أمام هذا الغياب، مالم نقل اللامبالاة، فما كان أن يستأسد التيار السلفي عموما في ليبيا إلا لوجود حالة فراغ في الساحة الثقافية، فالحرس القديم للثقافة في بلادنا، مع فائق التقدير، لازالت على ما يبدو أن عُقدة النظام السابق تغلبه وتسيطر على تفكيره وآفاقه، وربما تفرض عليه تردداته، وهذا بنظري المتواضع، ما قد يفسر جزئيا حالة تأخر بروز ملامح المشهد الثقافي في ليبيا بشكل واضح عبرعقد من الربيعيات العربية الحزينة، التي تسجل على المثقف، بشكل عام، أنه يمارس فن الغياب، ما لم نقل أنه يخشى ركب عُباب الواقع.