Atwasat

لقطات كورونوية (3)

جمعة بوكليب الخميس 09 أبريل 2020, 04:49 صباحا
جمعة بوكليب

1

مستقبلا، حين تقرأ الأجيال القادمة ما وثقه المؤرخون من تفاصيل سيرة وباء فيروس «كورونا» لدى اجتياحه كوكب الأرض، في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، سيعرفون أن دول الغرب الغنية اقتصاديا، والمتقدمة علميا، والقوية عسكريا كانت أولى ضحاياه، وأن الوباء كان بمثابة عصى وضعت في دواليب الرأسمالية وعطلتها، موقتا على الأقل، عن الدوران، وأن الفيروس كان قاتلا لكبار السن من البشر، لكن فرض الحكومات للعزل والحجر الذاتي، وتعطل الاقتصاد كان قاتلا للشباب.

الأجيال القادمة، ستدرك، كذلك من خلال ما سيسجله المؤرخون، أن الداعين في الغرب لرفع يد الدولة عن التدخل في برمجة وتنظيم الاقتصاد، وترك الأمور بيد السوق قد خسروا الحرب، في جولتين متتاليتين. الأولى كانت خلال أزمة 2008 المالية، وهذه المرة الثانية. الوباء الفيروسي كشف قصور عقولهم، ومحدودية نظرتهم، وأنانيتهم، وأبان بما لا يترك مجالا لشك، أن حضور مؤسسات الدولة في المجتمع لا غنى عنه، ودورها في تنظيم وبرمجة الاقتصاد مهم وحيوي. إذ لولا تدخل الحكومات، وبقوة، في هذه الأزمة التي أحدثها الوباء، وقبلها العام 2008، لانهارت اقتصادات العالم الرأسمالي. وأن دعواتهم لتقليص حجم الحكومات، وتقليص الإنفاق على المرافق العامة، مثل المرفق الصحي، كانت سببا في وفاة آلاف النفوس.

الأجيال القادمة سوف تعي كذلك أن الترسانات العسكرية بما تراكم فيها عبر السنين، من أسلحة متطورة، مكدسة في مخازن، لم تجد نفعا في الحرب التي أعلنت، في عواصم الغرب، ضد الفيروس.

ما كشفت عنه الأزمة الحالية، وما سينقله المؤرخون للأجيال القادمة، أن استفحال الوباء، وتعاظم خطره، وسرعة انتشاره، شغل الدنيا بما فيها، ولم يترك فراغا في عقول الناس، ولا لدى وسائل الإعلام ولا للحكومات للاهتمام بأمور أخرى تستوجب انتباههم. ولم يعد لقوات الشرطة وقت لملاحقة المجرمين واللصوص والقتلة، ووضعت وحدات الجيش قيد التأهب للنزول للشوارع حفاظا على الأمن، وردعا لأي أحداث شغب أو اضطرابات محتملة. وأن فصل الربيع حين حط رحاله بيننا، هذه الأيام، لم يجد في استقباله سوى الطيور مرفرفة مغردة ترحيبا، بعد أن تحولت عواصم العالم الكبرى إلى مدن أشباح.

الأجيال القادمة، سوف يلاحظون، من خلال اطلاعاتهم، أن الخوف من الإصابة بفيروس الوباء، قد أعمى بصائر الناس، وأظهر أسوأ ما فيهم. وأن هذا السلوك، على غرابته، ليس مفاجئا تماما، أو غير معهود، على البشر، لأن المؤرخين رصدوه ووثقوه بدقة، عبر كل العصور والحقب، التي تعرضت فيها البشرية وامتحنت بكوارث الأوبئة. الأمر الذي يشير، بل يوضح ويؤكد أن تطور الحياة البشرية، وتطور التفكير وارتقاء علو العلوم والثقافة والفن، كما أثبتت التجارب، يطال كل شيء، باستثناء وحيد ممثلا في الخوف الذي يعتري الناس، أينما كانوا وحلوا، لدى انتشار وباء، من التعرض للإصابة، واحتمال الموت، فإنه بقي، على حاله، صامدا، في مواجهة التغيرات والتطورات.

2

كان أهلنا، زمان، حريصين على حشو أدمغتنا وقلوبنا بالخوف من بوسعدية والغول وسلال القلوب. وصارت العلاقة بين الخروج من البيوت ليلا وتلك الوحوش الثلاثة علاقة متلازمة في عقولنا الصغيرة بالخوف. فعتمة الليل مخيفة لأن في طياتها تعيش تلك الوحوش المرعبة. وأذكر وأنا في عمر العاشرة تقريبا، أنني سمعت، مرة، من بعيد، ضجيج وتصفيق أولاد شارعنا، فلحقت بهم، وكانوا متجمعين في زقاق ضيق. كانوا ملتفين حول رجل عجوز، أسود لون البشرة، بلحية بيضاء، يعلق حول رقبته عدة عقود من عظام حيوانية متيبسة، ويرتدي ملابس عربية، ويضرب بعصا على ما يشبه الطبل تسمى شعبيا «دنقة». كان الأطفال ملتفين حوله مصفقين، ومرددين البوسعدية البوسعدية. تلك كانت أول وآخر مرة أرى فيها البوسعدية وجها لوجه. وعرفت من يومها أن البوسعدية ليس وحشا مخيفا، بل رجل عجوز بملابس قذرة، يعيش متسولا، ويستحق الشفقة، لكني لم ألتق الوحشين الآخرين.

الغول وسلال القلوب كائنان خرافيان متجذران في الثقافة الشعبية. ذكرتني بهما هذه الأيام الحرب الدائرة في طرابلس منذ عام، ولحق بها، أخيرا، انتشار وباء فيروس «كورونا».

تعايش الطرابلسيون قسرا مع الحرب، وما سببته لهم من أوضاع معيشية سيئة، وما خلقته من أوضاع نفسية مقيتة لا تحتمل، زادت في ثقل حمولة معاناتهم. وحين حل الفيروس بينهم هربوا، كغيرهم من شعوب العالم، إلى بيوتهم محتمين بجدرانها، خشية التعرض للإصابة واحتمال الموت. والحقيقة أنهم، على عكس غيرهم، كمن يفر من الغول ليقع بين يدي سلال القلوب. ذلك أن العزلة في البيوت قد تحمي الليبيين وغير الليبيين، من الإصابة بالفيروس. الفرق الوحيد هو أن بيوت الليبيين في طرابلس تتحول باستمرار إلى قبور يدفنون تحت أنقاضها كونها عرضة للإصابة بالصواريخ والقنابل العشوائية المتبادلة في معارك الإخوة- الأعداء منذ عام ودون توقف!!