Atwasat

أسئلة الزمن القادم

سالم الكبتي الأربعاء 08 أبريل 2020, 06:27 صباحا
سالم الكبتي

«ألفيت كل تميمة لا تنفع»
أبو ذؤيب الهذلي

لعالم حائر هذه الأيام، دائخ كله إلى حد الثمالة. الكرة الأرضية تشتعل وتهتز. باغتها على حين غرة هم ووجع مثقل لم تعرفه من قبل. الكورونا، هل هو وباء؟ هل هو «حيوان مستحدث من جماد» على رأي المعري؟ هل هو سلاح؟ هل هو مؤامرة قذرة على البشرية التي يكفيها ما فيها من هموم وأوجاع؟

هذا الكورونا في تسارع رهيب حصد الآلاف.. ولا يزال. جعل المدن خالية من سكانها. أقفرت دور العبادة والشوارع والمقاهي والحانات والملاعب والبنوك والمطارات والطرق ومحطات القطارات، حتى الأشجار خلت من العصافير وأسراب السنونو، والبحيرات هجرها البجع والبط والسفن. امتد الموت إلى الحياة وصار العالم مرعبا وموحشا إلى أبعد حد.

لقد مرت به في أحقاب مضت العديد من المآسي والأوبئة والكوارث والمجاعات والحروب: الجدري، الحصبة، السل، التيفود، الملاريا، الإنفلونزا بأنواعها، الطاعون الذي جاءنا عدة مرات في بلادنا آخرها العام 1921، وترافق مع مواسم من القحط والجدب. «ثمة إشارات خجولة تشير إلى أن حالات منه اكتشفت أيضا العام 2009 في بعض المناطق الشرقية». الطاعون قضى على الكثير من أحبابنا، في الزرايب وسيدي حسين، على سبيل المثال، في بنغازي أحرقت المزيد من الجثث.

العالم اجتاز مصائب يصعب إحصاؤها على كل الأصعدة، ووصل إلى قمة الرعب، حين صبحت عليه بالشر القنبلة النووية ذات يوم، وأهلكت مدينتين في اليابان، وظل يستنشق الغبار الذري ويعاني من انفجارات المعامل وتلوث البيئة. كان الإنسان في جانبه الآخر صورة محزنة لصنع المآسي والحزن، وأضحى على الدوام يحصد ما جناه على نفسه. ورغم ذلك وجد الجانب الآخر طريقا نحو الخير في مواجهة ذلك الشر والإثم. كان الخيرون من الرواد ينهضون بالمسؤولية والعطف. اخترعت الأمصال واللقاحات والعلاجات، وحوصرت تلك المصائب واحدة تلو الأخرى بفضل تلك الجهود. تضحيات تواصلت ولم تنقطع، وكان ثمنها حصيلة غالية بذلها العلماء والأطباء وقضوا إلى حد كبير على ما اعترى العالم من أمراض وفيروسات.

تطور العالم، استفاد من التجارب المحزنة، بنى المستشفيات ودور العلاج وشيد كليات الطب ومعاهد التمريض ومصانع الدواء. وأصبح في الغالب (لكل داء دواء). إلا.. الكورونا هذه الأيام أعيت من يداويها. سر غامض يموت في الصدور وعلى الشفاه في كل أطراف الدنيا. سر جعل الحديث يتكرر صباحا ومساء عن الكورونا.

طوال اليوم يستيقظ العالم قبل أن يتناول قهوته على سمعها المرعب، وينام على بصرها ووقع أقدامها الثقيلة. ضاق إنسان هذا العصر بالحجْر، صار محصورا مثل صرصار في حجرات ضيقة، في بيوت جامدة، أو مستشفيات تضيق عن نزلائها، وعجزت عجزا مفجعا عن إيواء الآلاف منهم. حالات من اليأس والانتحار والضيق تنتاب العالم، ولم ينقطع الغزل عبر العالم في عيون الكمامات وأجهزة التنفس ومناعة القطيع.. وإجراءات منع التجوال وصفارات الإنذار، ومع ذلك طال الوباء كل العالم، ولم تتوقف أيضا التضحيات والجهود النبيلة على مستوى الأطقم الطبية والجمعيات الخيرية والدموع التي تشاهد الأفران التي تحتوي جثث الأحباب، أو المنتزهات التي ظلت بديلة للمقابر وأماكن الدفن. الخطوات تتسابق مع الوباء صاحب السر الغامض الكبير فيما يبقى هو الأسرع قوة وحيوية وهلاكا للآخرين.
ومنذ البداية لاحظ الكثيرون السخرية والاستهتار والتدلل الذي جوبه الوباء به. ولاحظوا أيضا التناقض في التصريحات قبل أن يعتمد جائحة من الجوائح «التاريخية».

والغمزات السياسية التي أشار بها الزعماء المهيبون حيال بعضهم لكنهم في النهاية وقفوا في خط واحد مستقيم أمام الكورونا دون استثناء.

فما هو هذا السر الذي وراء كورونا؟ لماذا عجزت السياسة والعقول والعلم والطب حتى الآن عن المجابهة. وأصاب الشلل القبضات القوية وتقهقرت كل المحاولات في إيقافه والقضاء عليه؟ وإلى ماذا سيؤول وضع العالم الواسع العريض بعد الكورونا؟

لقد ظل العالم يؤرخ لمراحله بفترات زمنية، ويردد عالم ما بعد الحرب، ما بعد الحداثة، والآن ربما سيؤرخ غصبا عنه لزمن الكورونا. ففي الواقع يبدو أن ساعات الزمن توقفت بمرارة كاسرة، وعجز الفلاسفة والسياسيون والفنانون والكتاب عن التحليل. سادت رائحة الموت وطغى على العالم الحزن. وفيما مضى كانت الكوارث مادة خصبة وثرية لمعظم الأعمال الفنية والأدبية. نهض الأدباء والشعراء والرسامون بتخليد ما حدث، تولستوي، جوركي، باسترناك، كامو، همنجواى، شتاينبك، بيكاسو، سارتر، نازك الملائكة، الأخضر حامينه، رجب بوحويش، فاطمة عثمان. كل هؤلاء وغيرهم من الرواد، مع ملاحظة الفارق في الظروف، أشاروا إلى المعاناة من الفجائع والظلم والاقتتال الأهلي والأمراض والمعتقلات والمنافي، لكن العالم لم يتعظ بهذه الأمثلة والصور.

هل صنع هذا العالم.. هذا الوباء؟ هل هو غضب الأجيال القادمة مما يحدث أو سخط الأرض التي كانت تنتفض جراء الزلازل والطوفانات والبراكين. الأسئلة تنهمر مثل المطر تباعا في زمن الكورونا، لكنها تعجز عن إيجاد أجوبة شافية. السؤال تلو السؤال يسقط تباعا أمام الحال المريع الذي يلف ويطوي الكرة الأرضية بأسرها. لم يصدق خيال البشر هول ما حدث ويحدث، ولم يدرك بعد بأن الكورونا أقسى من أوجاع شهدها العالم في تلك الحروب والمعتقلات والسجون، لكنها لا تزال لم تبلغ المدى الذي وصله ظلم الإنسان لأخيه على مدى حقب من الدهر. الظلم يظل أقسى من الكورونا.

ماذا فعل العالم لنفسه بنفسه؟
إن الإنسان يدفع ثمن جبروته وغطرسته وكبريائه الأجوف. هل ما يحدث هو إرهاصات لتغيير قادم عنيف سيظل يهدر لينفجر إلى شظايا ويقلب الموازين في الفكر والفن والسياسة والاقتصاد والاتصال والحضارة والعلاقات؟ هل ستتغير الخرائط؟ هل هو ربيع عالمي جديد وفوضى كورونية خلاقة بكل الأبعاد والمقاييس؟

والمقبل على ما يبدو غير منظور لأحد، لكنه وفقا للمعطيات والمفاهيم الجارية أمامنا، سيكون سيئا. ستتبدل أمور عديدة ولنا أن نتخيل «مجرد تخيل» بأن الذي حدث نتيجة للعبة قذرة أو مغامرة سياسية طائشة راح الملايين بسببها.. نتخيل رد الفعل إذا ما اتضحت الحقيقة وظهرت الأجوبة بعد أن يطير الغراب وتظهر الشمس. هل سيكون المقابل المزيد من الثأر والانتقام واستيفاء الحق بالذات كما يقال؟ حرب شاملة ترد الصاع بعدة صيعان.

والعالم هذه الأيام كله خوف وود وتقارب. من كان يصدق هذا؟ حتى المشردون وجدوا لهم أماكن وحلولا. العالم الذي يدوس النعمة بقدميه ويأكل لحم أخيه ويطلق كلابه لتنبح على الغافلين البسطاء ويوقد الصراعات. عالم مثل هذا لم يكن أبيض على الإطلاق يحتاج بالفعل إلى هذه الصدمة بلا توقف حتى يعرف حجمه الضئيل.

فيا أطفال الزمن القادم: العالم يشعل علامات الإنذار الحمراء على طول محطاته. العالم مشغول الآن، يخاف ويرتعش، يسقط ولا يدري متى ينهض، إنه لا يفكر من أجلكم. ولتكن مشيئة الله، فناموا بهدوء حتى تطلع الشمس وسط الظلام والرماد ويطير الغراب. وانتظروه في محطته القادمة!