Atwasat

الحر ممتحن بالأدرينالين!

محمد عقيلة العمامي الإثنين 06 أبريل 2020, 08:49 صباحا
محمد عقيلة العمامي

وظيفة الغدة الكظرية؛ هي إفراز هرمون (الأدرينالين) فبمجرد أن يتمكن منك القلق يتدفق هذا الهرمون مسرعا في مجرى الدم، فيرفع نبضات القلب منذرا للتصدي لهذا الخطر المباغت. في تلك الأثناء تتوقف معظم عمليات الجسد غير الجوهرية كالهضم على سبيل المثال، ليتجه الدم حاملا الأوكسجين إلى العضلات والدماغ، محفزا في الوقت نفسه الطحال لدفع كريات الدم الحمراء في العروق لإمداد الأنسجة بالأوكسجين، وتفرز الكبد ما بمخزونها من فيتامينات ومغذيات. والعجيب أن هذه الحالة قد يكون سببها تافه للغاية كسوء فهم في نقاش أو زعل من صديق أو حبيب أو أي تعليق مزعج، لا معني له من صديقك أو زوجتك العزيزة، أو من جارك المتأزم طوال الوقت.

وهكذا، إما أن يكون جارك، على سبيل المثال، صديقا لغدتك الكظرية، أو عدوا لها! ولعل لهذه الغدة علاقة بالمصطلح العامي، الذي تستعمله عندما يضايقك أحد ما، فتقول: أن فلان (فوّضْلي) مرارتي، أو (زعّملي) كبدي ، أو (رقالي ضغطي) ولعل المقصود بالمرارة والكبد، هي هذه الغدة (الكظرية) التي تقترب أحرفها من تجميع أحرف (كاظم الغيظ)!.

هرمون الانفعال هذا هو سبب الإرهاق وأمراض القلب وضغط الدم. وهي الأمراض القاتلة، ولا أعتقد أننا لا نعرف أن الشخصيات الهادئة هي في الغالب أطول عمرا، وأقل مشاكل سواء في البيت، أو في الشارع، أو في العمل، أو في المسجد، أو في مجلس النواب.

إن أعظم الفنون هو فن المعيشة المشتركة، مع الآخرين، بحيث لا يجعلونك تبدد طاقتك في مقارعة سلوكهم السيء. وإليكم مثال استقيته، من جاري الذي تواصلت صداقتنا أكثر من نصف قرن، وهو بالمناسبة طبيب، وهو الذي حدثني عن (الأدرينالين).

لم أره طول صداقتنا قلقا أو منزعجا أو حتى غاضبا، مثلما رأيته طوال أسبوع مضى. كانت له قطعة أرض زراعية، احتفظ بها لتكون له ولأسرته استراحة يلجأ إليها، مثلما قال، عندما يخنقه ضجيج المدينة. كان سعيدا طول بنائه لها، وسألني مرات لمرافقته إليها.

بعد تقاعده ظللت أراه متحمسا، مبتهجا، يخرج صباحا محملا عربته بأشياء ينقلها إلى استراحته.. وغالبا لا أراه إلاّ حين عودته في المساء. ثم، فجاءة توقف نشاطه، وخبت همته، وبدا لي متكدرا، وبحكم جيرتنا وصداقتنا اقتربت منه متسائلا عما يقلقه. أجابني مباشرة: "وكلّتُ سمسارا لبيع الاستراحة!". أزعجني قراره، واعتقدت أنه ناتج عن سبب مادي، وهممت بعرض المساعدة، ولكنه أدهشني عندما قال كعادته متبسما، بأسلوبه الهادي:

"الحر ممتحن بأولئك الذين ذكرهم المتنبي!" واستطرد: "جاري كرّهني فيها!". وانفرجت أساريره، وقال وهو يضحك: "دق لي فيها مسمار جحا!.." ولم ينتظر سؤال دهشتي، بل استطرد ثانية: "دفع بابي، فيما كنت أطلي شباكا، ودخل كعادته بدون استئذان، ومن بعد حكاياته المملة المعتادة أخبرني أنه ذهب إلى السجل العقاري، ووثق مساحة أرضه، ثم تبسم عندما أخبرني أن له مترا ونصفا في أرضي، وأن سور استراحتي مقام على أرضه، وقال: "إنها امتار بسيطة ليست مشكلة بين الجيران!..". عندها توقفتُ عن طلي الباب. وتبسمت له، وخطر لي (مسمار جحا). وانتبهت إلى أن جيرتنا لن تكون مريحة؛ إن أعدت بناء السور، سوف أكون في نظره معقدا ومتأزما. وإن تركت السور كما هو سوف يصبح دخوله استراحتي أمرا مُستحقا له.. فكرت، ونفذت ما رأيته مناسبا!".

كان، صديقي هذا، قد أسس حياته على أنه ليس مرغما على أن يرتبط بعلاقة، مع أي كائن مقلق، فالمرء ممتحن بهم في حياته وهم مصائب كل ما يخطر على المرء من قبح في هذا العالم، ولا ينبغي أن يجعل منهم المرء لا أعداء ولا أصدقاء، فقد تكون أنت سببا في شقائهم، تماما مثلما يكونون هم أيضا سببا في شقائك، فالقلوب كالأرواح تتقارب وتتألف، أو تتباعد، وغالبا لها أسبابها، وفي الحالتين لها ارتباط وثيق بغدتك الكظرية!

وسريعا ما تذكرت أنه منذ بداية مشواره المهني، تقدم بطلب إلى مدير إدارة المستشفيات بإعفائه من منصبه كمدير لإدارة المستشفى، وأن يعود مجرد رئيس لقسم الأعصاب. قال الموظفون أنه تنازل عن وظيفة مدير إدارة واكتفى برئيس قسم لأنه أحب مهنته! والأمر في الواقع ليس كذلك. كان هدفه، مثلما أخبرني، ألاّ تكون لي علاقة مباشرة بمدير إدارة المستشفيات، لأن الحديث معه يرفع (الأدرينالين)!. وقانا وأياكم ممن يرفعونه وباقتدار كلما تسمعهم، أو حتى تراهم!