Atwasat

أخلاقيات المعركة الطبية في زمن الأزمات الصحية

جازية شعيتير الأحد 05 أبريل 2020, 09:48 صباحا
جازية شعيتير

حطت كورونا رحالها ببلادنا وسجلت عشر حالات إصابة وأول حالة وفاة، وقد أعلنت السطات التنفيذية في غرب البلاد وشرقها الحرب عليها؛ ووعدت مواطنيها والمقيمين على إقليمها بالنصر المظفر، وحشدت جنودها في المؤسسات العسكرية والأمنية والصحية كل حسب تخصصه وكل حسب مهامه.

في هذه المقالة نلفت الانتباه إلى جنود الرحمة في هذه المعركة من الممتهنين للمهن الطبية والمهن الطبية المساعدة أو من يطلق عليهم اسم "الجيش الأبيض"، وهم يواجهون أهم مأزق من أخلاقيات المهن الطبية، إلا وهو التعارض بين واجب علاج المريض والحق في حماية النفس والغير من المرض.

ففي الوقت الذي تعلن حملات تحث على البقاء في البيوت، نستهجن من هؤلاء امتثالهم لتلك الحملات خوفاً على أنفسهم وعائلاتهم، ونطالبهم بمغادرة منازلهم والتواجد في العيادات والمستشفيات والمصحات ومراكز الإيواء احتراما لقسم أبقراط.

وفي الوقت الذي نشجع الكافة على الهرب من وجه الفيروس وترك مسافة آمنة بين الجميع بافتراض أنهم حاملون محتملون، نشجب هروب الأطباء من العيادة حين يرتادها المريض المشتبه بحمله الفيروس.

لماذا يخشى الأطباء فايروس (كورونا)؟
حينما نسمي الأطباء جنود الرحمة نستخدم قياساً فضفاضاً، فلقد كانوا دائما ملائكة الرحمة ولم يكن يطلب منهم سوى بذل العناية وبما لا يضرهم بطبيعية الحال، لكن مع كورونا اختلت المعادلة وصار الطبيب مستهدفا، والدليل على ذلك قافلة شهداء الواجب التي نترقب أخبارها إعلامياً بدءاً من الطبيب الصيني أيقونة كورونا العالمية، وصولاً للطبيب المصري أول شهيد واجب على الصعيد الإقليمي ولن يكون آخر من نسمع من شهداء الواجب، كما أنهم بوابة العبور الأولى للفايروس ومطلوب منهم التعامل المباشر مع حاملي الفايروس المحددين والمحتملين بما يهدد بنشره على مدى واسع.

هل يتمتع الأطباء بما يعرف بــ "حق الانسحاب من العمل متى شكل خطراً على الحياة"؟ أم أن الدولة يمكن أن تجبرهم على القيام بواجباتهم المهنية رغم ما يحيط بها من أخطار محدقة؟

• على صعيد الإطار الدستوري الليبي نجد أن دستور المملكة 1951 ومشروع دستور 2017 قد اتفقا على جواز فرض العمل القسري"السخرة" في حالة الضرورة وقد فصلها دستور المملكة "في حالات الطوارئ أو النوازل أو الظروف التي قد تعرض سلامة السكان أو بعضهم إلى الخطر" واشترط أن يفرض من السلطة التشريعية، أي أن يكون بقانون وليس بقرار.

وقد غاب عن الإعلان الدستوري المؤقت 2011 الإشارة لذلك لكن لم يغب عنه التأكيد على "الحق في الرعاية الصحية للمواطنين" بما يعني بالضرورة إلزام الدولة بواجب الرعاية الصحية للمواطنين من خلال القطاع الصحي فيها (المادة 8 منه).

• أما على صعيد الأطر القانونية؛ فإن نصوص قانون العمل رقم 12 لسنة 2010 "تعتبر الموظف مستقيلا إذا تغيب بدون عذر مقبول ، (المادة 174 منه) مما يعني بمفهوم المخالفة أن التغيب بالعذر المقبول لا يعد استقالة ولا تملك جهة العمل فصل الموظف لأجله.

• كما أن القوانين والمواثيق المنظمة للعمل الطبي تضع على عاتق الطبيب جملة من الواجبات منها (حظر الامتناع أو الانقطاع عن معالجة المريض إذا كانت حياته أو سلامته مهددتين بالخطر) المادة 6 من قانون المسؤولية الطبية، وفيما يخص الأمراض السارية (من حق المصاب بعدوى مرض الإيدز أو غيره من الأمراض السارية، أن يمكن من العلاج والرعاية الصحية اللذين تطلبهما حالته الصحية، مهما كان سبب إصابته بالعدوى، وعلى الطبيب أن يلتزم بعلاجه متخذاً من الاحتياطيات ما يقي به نفسه وغيره)، كما أنه (على الطبيب المصاب بمرض من الأمراض السارية أن يتوقف عن مزاولة أي نشاط من شأنه المجازفة بنقل المرض إلى مرضاه أو زملائه أو غيرهم، وعليه في هذه الحالة أن يستشير السلطة المختصة بالمنشأة الصحية لتحديد المهام التي يقوم بها) و (على الطبيب الذي يعلم أنه إيجابي المصل لمرض الإيدز أو غيره من الأمراض السارية ،أن لا ينخرط في أي نشاط من شأنه المجازفة الواضحة بنقل المرض إلى الآخرين).

توفير الرعاية الصحية للمواطنين واجب يقع على الدولة

بغض النظر عن مدى قدرة الدولة عن إجبار الأطباء على العمل، وبغض النظر عن مدى مسؤوليتهم القانونية، فإننا نؤكد أن الأطباء خط الدفاع الأول في حربنا ضد كورونا، وهم أبناء هذا الوطن عانوا خلال المرحلة الانتقالية الممتدة منذ أوائل 2011 وهو يؤدون الواجب في أحلك الظروف ثم يصنفون سياسياً، أو يهمشون إدارياً، أو يتميزون قبلياً وجهوياً.

وقد دفعوا الكثير في الحرب ضد الإرهاب الدكتاتوري، والحرب ضد الإرهاب الداعشي، لم تنته الأخيرة حتى وجدوا أنفسهم أمام الحرب ضد الإرهاب البيولوجي، كل ذلك في وسط بيئة صحية متهالكة ينهشها الفساد.
ولن تغني التلويحة الحكومية بالمقابل المالي الجزيل في ظل هذه الظروف الاقتصادية المتردية، حينما سمع أحد الأطباء بقرار رئيس الوزراء بزيادة رواتبهم كان تعليقه ببساطة "غير ايسلكونا في عرقنا الأول" بينما قالت إحدى الممرضات "لو كنت زايدة على هلي، هلي مش زايدين علي" وآخر يؤكد "أنا مش خايف على روحي خايف نقعد بؤرة عدوى لأطفالي ولأسرتي".

لذلك فعلى الدولة أن تدعمهم بالمواد اللازمة التي تضمن حمايتهم من التقاط ونشر العدوى بين المرضى وإلى أسرتهم ومن في محيطهم من بدل واقية PPE والكمامات والقفازات والكحول والمطهرات اللازمة، إضافة لأهم مطلب في هذه المرحلة: أجهزة مخبرية لتحليل الفيروسات وتشخيص حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد.

وكما يقول أ. د. مصطفى الفاخري: فإن هذه الإجراءات تعتبر من متطلبات تقديم الخدمة لضمان جودة الأداء وتحقيق المستهدف وهو الانتصار في حرب كورونا وتحقيق صحة المواطن، فإذا اتفقنا أن الطبيب جندي فهل ترسل الدول جنودها في خط الدفاع الأول عزل من العتاد؟ لا فائدة ترجى من جندي أعزل".

ختامــــاً
للأسف، لن يكون هذا هو المأزق الأخلاقي الوحيد أمام الأطباء، فإذا ما توافرت مستلزمات الوقاية وباشروا أعمالهم وتعاظمت أعداد الحالات المحتاجة إلى أجهزة التنفس وأسرة العناية محدودة العدد، لا قدر الله، سيجدون أنفسهم في مواجهة المأزق العالمي الذي يواجه زملاءهم الأطباء؛ وهو مأزق التعارض بين واجب مساواة المعاملة الصحية للمرضى (المادة 50 من القانون الصحي / المادة 3 من قانون المسؤولية الطبية) وواجب إجراء المفاضلة بين المرضى لغرض المصلحة العامة؛ فقد تابعنا كيف أن بعض الدول العربية فاضلت بين المقيمين والمواطنين، وبعض الدول الأجنبية فاضلت بين كبار السن والمعاقين وذوي متلازمة داورن وغيرهم من المرضى.

يقول أ. د. محمد سعد: قد نستسيغ قرار التضحية بالميؤوس من شفائه (يحظر قانون المسؤولية الطبية ذلك بنص المادة 12منه) بيد أنه من القرارات الصعبة والمعقدة، وهو في نهاية الأمر قرار طبي خالص لا يجوز أن تعلن السلطة التنفيذية موافقتها عليه أو تأذن للأطباء بذلك. وأرى أن يكون القرار طبيا باعتماد سلطة قضائية تقدر التعارض بين المصلحتين وتقرر أيهما أولى بالرعاية، وبذلك نحصن الأطباء من الإدانة الأخلاقية بجريمة الضرورة وإن لم ترتب مساءلة جنائية.