Atwasat

لقطات كورونوية (1)

جمعة بوكليب الخميس 26 مارس 2020, 01:06 مساء
جمعة بوكليب

1
لم يكن يوم أحد. ولم يكن الوقت فجراً. بل يوم ثلاثاء، في حي سوهو، من أكثرأحياء لندن حيوية، والوقت قرابة الظهر: الحوانيت مهجورة. المقاهي خالية. والشوارع هادئة.

ما كان لا يخطر على بال بالأمس القريب يصبح اليوم حقيقة موجعة، نتعثر بها خائفين. وليس أمامنا نحن البشر، أينما كنّا، سوى القبول بما استجد علينا من واقع، والتعامل مع مفرداته الجديدة، وعناصره المتحوّلة، ومحاولة التماسك، والحفاظ على ما أمكن من توازن بين العقل والروح، لنتمكن معا، وبأقل خسائر، من العبور بسلام وأمان إلى الضفة الأخرى من النهار، حيث بشيء من الصبر والعزم يمكننا معا أن نسترد ما سُلب منّا خلال الأسابيع الماضية من بهجة، ونعيد لشوارعنا وطرقاتها، في كل مدن العالم، ما فقدت من ضجيج، ولمتاجرنا حيويتها المنهوبة، ونضخّ في مقاهينا من دم الحياة مجدداً، لتنتعش بالضحكات واللقاءات، وتدفأ بما في القلوب من حكايات.

في معارك صراع البشر مع كوارث الطبيعة، قديما وحديثاً، تكون المدن على رأس قائمة الضحايا.

2
مازلت أتذكر ذلك النصّ الجميل، المنشور في عدد من أعداد مجلة جرانتا -GRANTA الثقافية الدورية. كان ذلك في عام 1997، وكان العدد مكرّسا بجملته لتوثيق انعكاسات حادثة مقتل الأميرة ديانا في حادث سيارة أليم في باريس. نسيت اسم كاتبه، لكني مازلت أذكر أنها أنثى، تحكي باستثارة قصة قيادتها لسيارتها، بسرعة غير معهودة، في يوم صادف كانت تجري فيه مراسم جنازة دفن "ملكة القلوب". كانت تعبر بسيارتها شوارع وطرقات معروفة بحيويتها وازدحامها، وقد خلت، وقتذاك، من الحياة. تقطعها السيارة بسهولة ويسر، كسكين في قالب زبدة، ومن دون أي إزعاج مروري معتاد. أذكر، كذلك، أن المؤلفة حين وصلت مقصدها، تمنّت من كل قلبها لو أن شوارع لندن تظل دائماً كما كانت عليه ذلك اليوم.

المؤلفة، رغم نجاحها في القبض على تلك اللحظات، ونقلها إلى القراء بدقة وبأسلوب بديع حالة الأسى الذي خيّم على سكان لندن حزناً على وفاة الجميلة ديانا، إلا أن الخاتمة، في رأيي الشخصي، اتسمت بشيء من قسوة مشاعر غير مبررة.

المدن ضجيج حياة، حراك إنساني لايتوقف عن التفاعل والتغير والتطور. لكنها بمجرد أن تخلو شوارعها وطرقاتها من البشر، وتغادرها ما عرفت به من حياة وحيوية، تنتفي عنها صفتها، وتصاب بصمت موحش أشبه بصمت المقابر. وتبدو وكأنها أسلمت الروح.

وأنا أقود سيارتي، خلال اليومين الماضيين، في منطقة بغرب لندن، في طرقات، على غير عادتها، شبه خالية من حركة السيارات والبشر بعد استشراء الخوف من الوباء، وتحذيرات الحكومة للناس بالبقاء في البيوت، تذكرت، فجأة، ذلك النصّ البديع، وقلت في نفسي متسائلاً ترى لو أن كاتبته مازالت على قيد الحياة، وتقيم بلندن، هل ستسعد مرة أخرى، وهي تقود سيارتها، في شوارع وطرقات مدينة هجرها سكانها هرباً من ملاحقة وباء، وتركت وحيدة لتواجه عربدة الفراغ، ووحشية الصمت؟

3
كان ذلك في الاحتفال بحلول الألفية الثالثة. وكانت لندن في أبهى تألقها، وكأنها في حفلة عرس. وأذكر أنني كنتُ في بيتي، محاطاً بأفراد أسرتي، نتابع على شاشة التلفاز وقائع افتتاح جسر مشاة جديد،على نهر الثيمز، يُعدّ تحفة فنية، صممه مهندس معماري مشهور. أطلق على الجسر اسم جسر الألفية، ويصل ما بين منطقة امبانكنت وساوث بانك. كان الازدحام شديداً، حتى تشعر بأن أكثر من نصف سكان لندن، قد تركوا بيوتهم، وجاءوا فرحين لرؤية الجسر وتجربة عبوره لأول مرّة. شدة تزاحم البشر جعلت الجسر يتأرجح بآلاف الناس يمينا ويساراً، حتى تحسّ بوشك حدوث كارثة. وتعالت عبر التلفاز أصوات الذعر وصيحات الخوف. لكن الله سلم، وانتهت الأمور على خير. واستدعى الأمر إغلاق الجسر لعدة أسابيع حتى قام المهندسون والتقنيون بالإصلاحات اللازمة وتقويته لمنع تكرار ما حدث. لدى فتحه مجدداً، فقد الجسر اسمه الرسمي، وصار يعرف شعبياً، حتى يومنا هذا، بالجسر المتأرجح The Wobbly Bridge-.

خلال الأيام القليلة الماضية، كنت أتصفح جريدة يومية تصدّرت صفحتها الأولى صورة للجسر المتأرجح، في ساعة الذروة النهارية، وهو ممدد بين الضفتين، مدثر بالصمت، وبالهجر، ومتروك لمعاناة الفقد والأسى. تلك الصورة، لذلك الجسر، في تلك الساعة من النهار، تجعل الناظر إليها يشعر بأن الجسر، معلق في الهواء، ليس مجرد حيلة هندسية للربط بين ضفتي نهر في مدينة فقدت صوتها فجأة، بل ليكون شاهد عيان على نهاية حقبة وبداية أخرى في تاريخ لندن: ماقبل الفيروس، وما بعد الفيروس. وليوثق لعبور زمنين باتجاهين متقابلين: زمن ما قبل استفحال الخوف في طريقه إلى التلاشي، وزمن ما بعد استفحاله يتهيأ للحلول.

الغريب أن نهر الثيمز يواصل حياته منساباً في صمت معهود، غير مبال بما حدث ويحدث، أو سيحدث، على الضفتين.