Atwasat

ولكورونا بعض الفضل

سعاد الوحيدي الثلاثاء 24 مارس 2020, 01:28 مساء
سعاد الوحيدي

طالما زركش الفلاسفة لإمكانية قهر الحدود والحواجز بين البشر، والحديث بلغة إنسانية مشتركة. تستند لما يجمع، ويربط بين سكان أرض واحدة يتشاركون ترابها وسماءها وماءها، وإن اختلفت مواقعهم عليها. والتي ظلت مجرد أفكارٍ طوباوية استحال تحققها، وحتى جاء "كائن طفيلي"، بائس، ليلغي، عبر كارثة غير مسبقة، هذه الحدود العصية/الغبية، التي صنعتها الحروب والمجازر.

لقد انتصرت كارونا على عبث الانسان، وأسست دون شك لبداية عهد جديد للبشرية... وقد صار قادة العالم يتحدثون عن مراجعة قيم السياسة والاقتصاد والحدود والعلم والمعرفة... وأن كينونة/ أو صيرورة بلد في ذاتها لن تكون بدون الكل. وقد تساقط أمن واقتصاد العالم، وتوقفت المدارس والجامعات والطيران والحياة في أزقة وشوارع وسماوات بلدان الأرض بأسرها أمام "عطسة" مُصاب واحد. وصار المستقبل باتجاه التفكير المشترك، والإنسانية المتشاركة في التخطيط لحماية الجنس البشري.

فقد تمكنت كورونا بضربة واحدة من تحقيق الكثير من الطوباويات "المستحيلة"، وعلى رأسها "عدالة التوزيع". حيث أوصلت أخطارها دون تقصير، لكافة الأغنياء كما الفقراء، للمشاهير والمغمورين، للقادة وللصعاليك... فبينما فشلت الإنسانية في تقاسم الثروات، والسلطات، أو مياه المحيطات، تقاسمت دون تفرقة ذات الوباء، وذات الارتجاف والخوف المفجع من الموت. فاختفى البذخ والتبرج، وتوارت الوجوه جميعها خلف الأقنعة الواقية، وغابت المجاميع عن الأضواء، ولم يعد المشهور مشهوراً إلا بمصاب الوباء. لقد انسحق المال والاقتصاد والسفر والطيران وحفلات الأثرياء.... وصار العالم بأسره سجنا كبيرا. حيث أجبرت كورونا كل هولاء المثخنين بالثراء والأضواء على الانفراد والوحدة، والمكوث خلف الجدران دون جمهور أو كاميرات. وصار النجم الحقيقي الساطع اليوم، هو نجم عمال الإنقاذ والإسعاف والممرضين والأطباء.... هولاء الذين يقفون في الخط الأول لمواجهة الكارثة. إليهم تقف الجموع المحظورة في بيوتها عبر العالم، على الثامنة من كل مساء، إجلالاً وإكباراً. وتصفق لهم في تناغم أسطوري لم يتحقق البته لأي سلطان أو رئيس أو أمبراطور.... أو لإي ملياردير أو بلياردير أو نجم مشهور. إن ما يتم لهولاء البسطاء ذوي الأجور الأدنى في سلسلة الرواتب المهنية، يرتقي لمستوى الثورة، وانتصار الإنسانية على أوهامها.

وتحولت الحقنة، (والسرير والمستشفى)، إلى السلعة الاستراتجية العالمية الأولى بامتياز، والسد المناعي/ الدفاعي الأهم لإنقاذ البشرية. لقد سقطت نظريات الدفاع النووي/ والتكنولوجي، أو السلاح الجوي أو البري، والبحري ... وتأكد أن ثمة أداة دفاع واحدة، قد تنقذ الجنس البشري أمام هذه المِحنة العصيبة: وهي اللقاح المُضاد. لقد عاد الطب والبحث العلمي للصف الأول، وتقهقر العسكر. كما تأكد لقادة العالم أن ثمة وحدة إنسانية جامعة، تضمهم جميعاً في قرية جامعة، إن تداعى أحد جدرانها، انهارت بالكامل فوق كل الروؤس.

على أن ثمة تطرفا متناقضا، شديد الحدة/ والبشاعة أثارته الكارثة ذاتها. فبقدر هذا التوحد البشري الذي استفزه فيروس بائس على المستوى الجمعي/ العالمي، تبلور في ذات الوقت، وبشكل شديد القسوة والفردانية، منحى بدائي بشع الأنانية لدى الأفراد، والذي أبرز بشكل مفاجيء لدى البشر، تطرفاً مقلقاً نحو الذاتية، والتضحية بالعلاقات الرابطة بالآخر من أجل حماية النفس. على النحو الذي خلق في أجواء "السجون الانفرادية" داخل البيوت، انغلاقاً مفرطاً على الذات، صار يهدد، إذا ما استمرت الأزمة، بحدوث فاجعة اجتماعية وإنسانية غير مسبقة. (اضطر بابا الفاتيكان أمامها إلى أن يطلب من الأسر المسكونة بالهلع، أن "عانقوا بعضكم داخل بيوتكم"). وترجح التحليلات، على عكس بعض الأزمات التي خلفت طفرة في الولادات، حدوث حالات مفرطة من الطلاق والانفصال، نتيجة لاكتشاف غربة الفرد مع الشخص الذي كان يعتقد أنه أقرب الناس إليه.