Atwasat

مناعة القطيع والصفر الهائل

سالم العوكلي الثلاثاء 17 مارس 2020, 01:47 مساء
سالم العوكلي

العام (عشرون عشرون)، استبشر الكثيرون بإيقاع رقمه، وإليه أُجلت كثير من المؤتمرات والأزمات والاحتفالات، رُسمت له الخطط بدقة، ونَشرت أكثر هيآت البحث والتخطيط توقعاتها المتفائلة لهذا العام ذي الرقم الموسيقي، وبسلاسة بدأ العام بعد أن تبادل المليارات من رواد العالم الافتراضي التهاني بالعام الجديد، والأدعية بأن يكون عام خير وهناء وسعادة.

لكن من أقصى الشرق جاءت المفاجأة، فيروس مستجد من عائلة كورونا بدأ يعكر صفو العام من بدايته، ومن قلب الصين؛ التي أصبحت قبلة السُّياح والتجار والمتسوقين، انطلق هذا الخوف الذي سرعان ما تحول إلى رعب عالمي، وسقطت كل المخططات والدراسات الإستراتيجية المُحْكَمة أمام شغب هذا البروتون الصغير الذي عليك أن تُكبّره ألف مرة كي تراه خلف الميكروسكوب مثل هالة شمس أو إكليل، وهذا المظهر ما كان وراء تسميته كورونا التي تعني التاج في اللاتينية.

العام 2007 ختمت روايتي "اللحية" بهذا الهذيان الذي أسفرت عنه أحداثها، باعتبارها رواية ترصد استشراء الهواجس بين البشر، وتوجس الإنسان من الإنسان الذي قربه: "يبرهن الحنين دائماً عن غموض المصير وعن تلك الأشباح التي تتراءى في طريق يبتلعها أفق مجهول، في داخل كل منا زمن بدئي يشكل مثالاً للأزمنة جميعها، والحنين إليه يخفي توقاً جينياً إلى حقبة التناغم بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان والإنسان..... تضيء الأوشام ذاكرته وشوقه إلى زمنه المفقود، وإلى هويته التائهة، لكن العلامة الفارقة تنحو إلى التوحد في كوكب يشغله التشابه، ضرورة كان أو خطاباَ". وأعني بالعلامة الفارقة ندبة ذاك (الفصد) القديم الذي لاح على كتف النجمة السينمائية، شارون ستون، والذي كنت أحمل قرب كتفي فصدا مثله حين كانت الحرب على الأوبئة استباقية، ورغم اختلاف ملامحنا وألوان عيوننا وأطوالنا وألواننا وطورنا الحضاري وأوشامنا، إلا أن أثر اللقاح الذي تحول إلى ندبة صغيرة أعلى الذراع صار العلامة الموحدة للبشر، وهم يخوضون حربهم الموحدة ضد الأوبئة التي لا تفرق بين أمم تملك مخزونا نوويا كافيا للقضاء على البشر، وبين أمم لا تملك قوت يومها.

يقول الفيلسوف والمتصوف المقيم في كشمير الكندي إريك باريه: "العالم يحتاج إلى الكوارث كي يصحو". فهل كانت تنتاب العالم سِنَة من النوم؟ أم يقصد هذا التنويم المغناطيسي الشامل الذي تقوم به الميديا العالمية، والخدر الذي تسربه لنا وعود الليبرالية والسوق الحرة التي ما عادت ترى في الكائن الإنساني سوى رقم لحساب مصرفي، أو بطاقة ائتمان، أو عملة رقمية. نعم أحيانا نذهب في سنة من النوم المطمئن رغم الضجيج الذي يحيط بنا، وفي أُنْس تبجح الإنسان بسيطرته على الطبيعة وعلى مصيره، لكن لكورونا خطة أخرى يستيقظ عبرها العالم على جرس إنذار يتنقل من قارة إلى قارة.

يحيل البعض هذا الزائر الجديد إلى عالم السياسة والحرب البيولوجية، والبعض يوجه الاتهام لبعض الحيوانات البرية التي يلهمها الخوف من الانقراض طفرة الدفاع عن النفس بعد أن تحولت إلى موائد الملايين من البشر، وبين الخوف من كورونا والسخرية منه تشتعل وسائل الإعلام ومواقع التواصل بالتحذير أو التهكم أو كيفية تلافي هذا الكائن الميكروسكوبي الذي صعد سلم الترقي من خلايا الزواحف إلى دفء الثدييات كي يتسكع على طول وعرض الكرة الأرضية.

مدن ضخمة تخلو شوارعها من الحركة، ومطارات كبرى وموانئ وجامعات ومدارس ومتاحف تقفل، وفعاليات عالمية ومحلية تلغى، وأسعار نفط تتهاوى، وأسواق مال تخسر المليارات، ومثل نظرية (أثر الفراشة) التي من الممكن أن يسبب رفيف جناحيها في أقصى الشرق أعاصيرَ في أقصى الغرب، تظهر نظرية كورونا المشاكس، حيث من الممكن أن يعطس شخص في شرق الصين فيسقط مئات في غرب أوروبا. يحترم هذا الفيروس نظم الدول السياسية، فيبدأ من أعلى الهرم في الدول الهيراركية، ويصيب ذوي مناصب عليا، كما في إيران، ثم ينزل إلى الشارع، بعكس دول ديمقراطية يبدأ فيها من القاعدة الشعبية ويصعد.

البحث مازال جاريا عن المريض رقم (صفر) الذي كان جسر انتقال الفيروس المتطور من الخفافيش أو الثعابين إلى البشر، فهو سارق الفيروس من عالم الحيوانات شبيه بسارق النار من الآلهة، لكن لا أحد سيعرفه رغم أنه نظريا كان موجودا وهو لا يعرف حتى نفسه. بينما البلد المحتفي بالصفر، والمتمتع بمناعة القطيع، شاهدته في خارطة ترصد انتشار الفيروس في الشمال الأفريقي، حيث كل الدول بها أرقام ما عدا ليبيا مشارا إليها بـ (0 ) وكتبت وقتها: أحيانا يكون الصفر رقما هائلا. كتب مواطن مغربي، أنه لم يفلح إلا الليبيون الذين دمروا مطاراتهم وموانئهم ونجوا من كورونا. حتى الآن الفيروس لم يسجل في ليبيا ولا سوريا ولا اليمن ولا الصومال، والبعض الحاسد يحيل ذلك إلى التكتم، لكن التكتم مستحيل في عصر المعلومات الذي تحول فيه كل مواطن إلى صحفي، ولأنه مستحيل أيضا مع فيروس يعرف كيف يعلن عن نفسه بشدة تتجاوز كل تقنيات الحجب والإنكار. بعض الأوربيين ينحتون مصطلحا جديدا لمواجهة هذا الوباء المسمى حتى الآن جائحة ومقاومته عن طريق (مناعة القطيع)، مصطلح استفز الكثير من الثدييات البشرية التي تعتبره إهانه لإنسانيتها المتفوقة.

مازال الصفر الليبي صامدا حتى كتابة هذا الهذيان، ويظل كل شيء واردا، غير أن الغريزة الليبية التي كم قاومت الخوف بالسخرية تبرز بقوة عبر تبادل النكات والمقاطع الطريفة حول كورونا في مواقع التواصل، فالبعض يقول هذا الفيروس عاقل، وهو مرتاح على ليبيا التي تنظم نسلها عبر الحروب والحوادث المرورية وتردي الخدمات الصحية والرقابية على الأغذية والأدوية. ويشتد أذى كوفيد 19 حين يطال المقدس والشعائر، فهذا الفيروس العلماني لا يتوقف عن مشاكساته حين يذهب إلى صلب العقائد والعبادات، فصلوات الجماعة والجمعات تُعلّق لأول مرة في كثير من الدول الإسلامية، والحرم المكي يقفل لفترة من أجل تعقيمه رغم طهارته الأزلية، والمسجد الأقصى تقفل أبوابه، والعمرة تُعلق هي أيضا، ويقال أن ليبيا قال لصاحبه الذي يبدو أن شهر رمضان يتعبه: لقد أوقفوا العمرة وصلاة الجماعة، فرد صاحبه ورمضان ألم تسمع بخصوصه شيئا؟!. وما فعله كورونا بالثوابت والعبادات ارتبكت أمامه الفتاوى، بعد أن أدركت مصادرها الجامدة أن ما يستجد في العالم المتغير يفرض عليهم أن يستيقظوا من سباتهم ويخرجوا من كهف النوم الطويل، ويتأهبوا لما أهو أخطر.