Atwasat

خبز أمي.. وبالتن والهريسه!

محمد عقيلة العمامي الإثنين 16 مارس 2020, 02:27 مساء
محمد عقيلة العمامي

تعجبت يوم أمس عندما قرأت أن حالات الطلاق في ليبيا بلغت 7476! فأنا أعرف أن حالات الطلاق في بنغازي سنة 1914 بلغت 22 حالة، مثلما ورد في إحصائيات كتاب "بنغازي سنة 1914"، الذي ترجمة الدكتور رؤوف بن عامر.
ولا أدري كيف خطر على بالي، في الحال: "عجين خبز الغضب"! ولكن ما العلاقة بين عجينة الخبز، وهذه الإحصائيات؟

حسنا، ورد في رواية إنجليزية قرأتها، من أيام دراستي، لعلها : (Tess of the d'Urbervilles) حوار ما بين ابنة وأمها الريفيتين، إذ تعجبت خلاله الإبنة من عدم إتقانها لخبز يضاهي خبز والدتها في جودته، ففرحت الأم كثيرا، حتى إنها احتضنتها وقبلتها، وفيما ذهلت الإبنة مستغربة، قالت لها أمها ما معناه: "أنت بالتأكيد سعيدة لا يغضبك زوجك! فالخبز الجيد لا يتحقق إلاّ بالعجن الجيد، وهو لا يتحقق إلاّ في حالة الغضب من الزوج! والمرأة الصالحة التي تحب زوجها تنفث غضبها من زوجها أثناء عجن الخبز، تقلبه وتضربه، وكأنه قطعة منه، فهي لا تنفث الغضب في وجهه؛ اضربي عجين خبزك، أثناء غضبك منه بعنف واقلبيه وأصفقي به المنضدة بقوتك كلها.. عندها ستشعرين بتحسن، وأيضا تتحصلين على خبز جيد تأسرينه به! ولكن يبدو أنه لا يزعجك مثلما كان يفعل والدك!".

وعدت بذاكرتي إلى خمسينيات القرن الماضي، قبل أن تختفي أطباق الخبز المعجون والمختمر في البيت من شوارعنا، الذي قد يكون قد أعد بعجينة الغضب؛ التي تعد بإسقاطات تفريغ مشاعر الغضب من خلال العجن والخبط ، فمواجهة "سي السيد" في ذلك الزمن مغامرة قد تنقل الزوجة من مملكتها إلى بيت الطاعة!.

وما إن بدأت أفران أو (كوش عيت امنينه) تقفل تباعا، ولم يعد خبزهم "من الطبق للكوشة". ولم تعد مباريات المصارعة تقام أمام تلك الأفران للفت انتباه بنيات الشارع الجميلات. وما إن غزا خبز دقيق (الفارينا) المعجون بالألة البيوت، حتى بدأت الأحوال تتغير، وأصبح التلفزيون وسيلة لعلاج الغضب، ولكن لا يبدو أنه حققه بقدر ما حققه عجين الغضب. وقرأت في مقالة: " أن العجن قديما - في مخابز طرابلس - كانت يتم برفسه بالرجلين وليس بعجانه، وكان الخبز "مثلما قال الكاتب" بنه وصنه.... والنار تأكل كل شيء!!".

وسبق وأن كتبت عن مخبز يمتلكه مواطن فرنسي اسمه (ليونيل بوالان) اشتهر، فأصبح خبزه يشحن بالطائرات مرتين في الأسبوع من باريس إلى طوكيو. وهو لعائلة واظبت على إدارته بتواصل اثنى عشر جيلا. وفيما تطورت صناعة الخبز، لم تغير عائلة بولان خبزها؛ لا بطريقة طحن الحبوب بالرحى التقليدية، ولا بتخميره ثم خَبْزه، ناهيك أنهم احتفظوا بالأفران التقليدية. صار للعائلة مخابز تنتج ما يزيد عن خمسة عشر طنا يوميا بالطريقة والمواصفات نفسها. لقد أصبح لخبز بولان اسم تتباهى به مطاعم فرنسا، بل والعالم كله. وبالطبع هناك الكثير مما يقال عن كيفية إعداد خبزه، وأيضا عن نسبة استهلاكه اليومي في فرنسا، والعالم كله، خصوصا من بعد أن اعتمد كخبز رسمي لولائم الشانزليزيه.

ويحن المرء لما اعتاد عليه من خبز في موطنه، خصوصا إن اغترب عنه، فإذا كان من بنغازي، يحن بالتأكيد لأرغفة مخابز (الشارده)، أو (حمادو)، أو (الطرلي)، أو ( التومي). ويحن جيلي من الطرابلسيين إلى خبز كوشة (الصفار) و(حويل) و(بوخلال)، أوكوشة جورجيا المالطية.

والليبيون يحنون إلى الخبز الذي يتناسب منها مع "نص التن بالهريسة"، لأنهم شبوا على ساندويتشات التن بالهريسة، منذ أن تسرب زيت التن ولوّن أغلفة كتبهم المدرسية في المرحلة الابتدائية، ولو أنك سألت أي مواطن ليبي من مدينته بنغازي عن المشاهير الذين تفننوا في هذه الساندويتشات، فسيقول لك: ونيس بوذراع، وسي محمد الترهوني، وسي عبد الغفار، والعلواني، وشرشر، وبالتأكيد سيلومني كثيرون عن سهوي عن ذكر بقية المشاهير.

وبسبب أن الخبز غذاء رئيسي في بلادنا، مثلما هو رئيسي في معظم التجمعات الإنسانية في العالم، أصبح له حيز مهم في ثقافتنا، لدرجة أننا أطلقنا عليه، في ليبيا، اسم (النعمة). وهذا ما جعلنا، في طفولتنا، نتعامل مع بواقي خبزنا بحرمة تصل القدسية؛ كنا نرفع أية كسرة خبز مرمية على الأرض ونقبّلها ونضعها على حافة نافذة مثلا، لأنها "نعمة" من نعم الله علينا وينبغي أن نحترمها. وإخواننا المصريون يتعاملون، أيضا، مع الخبز بهذه الثقافة حتى إنهم ربطوه بالحياة فكلمة (عيش) التي يطلقونها على (النعمة) مأخوذة من كلمة المعيشة ذاتها، يعني من الحياة نفسها.

وقرأت مقالا جاء فيه أنه (لا توجد خبزتان وامرأتان متماثلتان). والواقع أنه لا توجد بصمتان متماثلتان، لا في المرأة، ولا في الرجل؛ ولكن اختياره للمرأة؛ أعادني إلى وصفنا للخبز بالنعمة. صار في صفي كاتب آخر يرى أن المرأة نعمة من نعم الله، ذلك إن كانت جيدة كخبز أمي، الذي تطحن قمحها برحاها، وتعد منه عجين "الغضب" وتميز أقراصها بعلامه قد تكون "قرصه، أو فروين" ونذهب به إلى الفرن الذي أعد بالطريقة التي أعدت بها أفران (ليونيل بولان)، غير أنه لا يسقط (القنان) فيها في (العين)، وهي فوهات إحمائها، والقنان يعني في لهجتنا رغيف صغير يخصص للطفل الذي ينقل طبق الخبر إلى الفرن.

اختفى خبز الغضب، وكثر الطلاق، ولم تستمر كوشة واحدة في بلادي، مثلما تواصلت كوشة ( ليونيل بولان) وما زلنا نبحث في الغربة عن خبز لساندويش التن بالهريسة.