Atwasat

ليبيا 1964 (2-2)

سالم الكبتي الأربعاء 11 مارس 2020, 02:50 مساء
سالم الكبتي

استقال الملك في 21 مارس، ثم عدل عن الاستقالة، لكن الوقت غير الوقت القديم، والزمن يختلف عن الزمن الذي ولى وعاشه في فترات بعيدة. الشباب لم يكن شباب الأمس القريب. المنطقة برمتها تتحرك وتغلي، والناس الذين جربوا أعوام المجاعة والظروف السابقة غير الموجودين بصورة أقرب إلى الواقع، والجيل الذي نهض بعد هذه الأعوام والتجارب تأسره مع أذنه الإذاعات والخطب والصحف. وفي الداخل الممتد بلا انقطاع فراغ قاتل وموحش يملؤه الآخرون في لحظة ودون تعب. الواقع المنظور جاهز ومستعد لكل الاحتمالات والتطورات، والدولة بكل أجهزتها تتعامل بأريحية ومثالية وعاطفة مع الداخل والخارج.

ومضت الأمور عادية إلى حد كبير، لكن ثمة تداعيات ومجريات تتحرك ببطء تحت السطح، هناك من ابتهج وعمه السرور عندما علم باستقالة الملك. كان البعض من المعارضين في مجلس النواب في القاهرة، كانوا على اتصال بالداخل مع جماعتهم، ظلوا يدعونهم للحضور على عجل، فالجو موات لفعل أي شيء. هذا البعض عقد اجتماعا في منزله ودعا الكثير من الأطراف في بنغازي وبشرهم بأن التغيير قادم وأن (مصر والجزائر معنا). بعض من حضر انسحب مشيرا إلى أن التغيير ينبغي أن يتم من الداخل ولا تحركه أطراف أو قوى من الخارج.

لم تتأخر الحكومة الجديدة في معالجة ما حدث. بدأت في التحقيق في حوادث يناير وتوقفت، سوت الموضوع بطريقة أو بأخرى. عادت الدراسة إلى مجاريها بعد توقف تجاوز مدة شهر كامل، ومفاوضاتها مع الدولتين بشأن الجلاء استمرت أيضا. هذه الخطوة التي أثارت حفيظة الملك في الأساس ولم تستشره الحكومة بصددها، هل كانت جفوة سريعة بين الحكومة الجديدة والملك.. أم غير ذلك؟

رائحة الأخطاء والفساد التي تراكمت في فترات سابقة جعلت الملك يشعر بالضيق.

أشار إلى الفساد غير مرة. الحديث عنه ارتفع في كل الأوساط، بل وصل إلى النشر في الصحف. واحدة حكومية نشرت لمحمود الهتكي (أمي) و(الشجرة) تعرض في المقالتين، وأشار إلى ما يدور في البلاد. وأن أمه كان لها عدة أبناء سرقوا وأفسدوا ولم يكونوا في المستوى. الأبناء كانوا رمزا لرؤساء الحكومات التي شهدتها البلاد منذ الاستقلال. وصحيفة أخرى غير حكومية نشرت قصيدة جعفر الحبوني (وين ثروة البترول يا سمسارة.. اللي مغير ع الجرايد نسمعوا باخباره). وثمة منشورات صدرت باسم (شباب الجنوب) حملت في سطورها الكثير من الضيق والتبرم. فيما صدر الكتاب الأسود في طبعة محدودة التداول تناول أحد رؤساء الوزراء السابقين بالقدح والاتهام بالفساد والرشوة. انتشر ذلك بين الناس وتحدثوا عنه وحفظوه ورددوه، فهل كان ذلك صدى لتحذيرات الملك من الفساد، أم أن ما تردد وكتب ونشر كان وصل لأسماع الملك وظل خلفية لمنشوراته السابقة واللاحقة عن ذلك الفساد وتفاقم الأخطاء في أركان الدولة؟
ومع ذلك الحراك الذي اختلف في نوعه من الملك إلى الحكومة إلى الناس، ظلت العاطفة والحماس يسودان كل فعل دون أية خطوة قوية مقابلة، لكن هنا صدرت صحف في طرابلس وبنغازي بعد منحها التراخيص من الحكومة السابقة.. البلاغ والشعب اللتين أوقفتا، الحقيقة والأيام والميدان لاحقا ومجلة جيل ورسالة عن كشاف ليبيا، كل ذلك في تلك الأشهر الأولى من العام 1964.

وهنا أيضا في مفترق الطرق ذلك العام تنطلق مبادرة نالت تأييد الرئيس السابق للحكومة نتيجة لاتصالات بين القوى السياسية والنخب (البعثيين واليساريين والإخوان) للم الشتات وجمع ما انفصل. عقدت اجتماعات متواصلة لهذا الغرض لتأسيس كيان واحد، لكن بعض الاختلافات برزت ورفض جانب من تلك الأطراف الاستمرار لأنه لا يلتقي سياسيا مع الإخوان، وربما صدر بيان تلك الأيام بمسمى ميثاق أهل طرابلس أو غير ذلك من مسميات. كانت محاولة لم تستمر، وترصدتها جهات الأمن بالمراقبة والتحري.

في أبريل يفقد الملك ناظر خاصته البوصيري الشلحي في حادث سيارة بعد مقتل والده بعشر سنوات. وفي الصيف إثر حادث زورق في بحر طبرق يتوفى ابنه إبراهيم. فراغ آخر في محيط الملك رغم الفارق الكبير بين الناظر السابق واللاحق، بين الأب وابنه. ثم تتتالى الأحداث ويفقد الملك رموزا أخرى ذلك العام أسهمت معه في بناء الدولة: عمر سيف النصر والي فزان السابق، ومحمد أبو الأسعاد العالم مفتي الديار، الرجل الذي عاصر إرهاصات الاستقلال، ووضع الدستور بدءا من لجنة الواحد والعشرين وحتى جمعية الستين، ومحمود أبوقويطين قائد الأمن العام.

تنتهي مدة مجلس النواب التي بدأت في دورتها الثالثة العام 1960، ويعلن عن الانتخابات للمجلس القادم. كان الصيف ساخنا مع إجرائها في كل المناطق. ومنذ البداية تولت الحكومة التي ذهب رئيسها للعلاج في الخارج وأدارها نيابة عنه أحد الوزراء الأمر باستبعاد الكثير من الوجوه التي تقدمت للترشح. الحكومة في غنى عن الأصوات التي تتوقع منها المشاكل والمعارضة. وعلى سبيل المثال لم تسمح بالترشح لأحمد بورحيل ومصطفى بن عامر وعبدالله شرف الدين وطالب الرويعي ومحمد السكر وعبدالحميد النيهوم وعلي السلاك.. وغيرهم. وحصلت الكثير من المفارقات والصراعات والمعارك في مراكز الاقتراع مع وقوع المواجهات بالعصي والحجارة بين الناخبين المؤيدين لهذا الطرف أو ذاك. وترددت أنباء عن شراء الأصوات والتزوير في أغلب المراكز الانتخابية على امتداد البلاد. فساد لكنه من نوع آخر، في الضمير وفي الديمقراطية وفي الشفافية. افتتح الملك البرلمان في دورته الجديدة في مقره الجديد الذي اكتمل في البيضاء. انفجر الموقف ثانية، ضج الناس بالتزوير وشعروا بالقلق مما حدث، وصلت حافلات من طرابلس تحمل الكثير من الشخصيات والقوى المختلفة التي منعت من الانتخابات ومن يساندها، وانضم إليها في بنغازي شخصيات عديدة، وانطلقوا كلهم باتجاه طبرق لمقابلة الملك. عقدت اجتماعات في إحدى المزارع ترصدها البوليس واتهم الحاضرين بتجميع السلاح لتغيير النظام وخلق الفوضى.

في شحات، في البيفيو المفرق بعد البيضاء منعت الحافلات من مواصلة السير، حوصرت من قوات الأمن. ظل القادمون في العراء أياما لم ينسوا خلالها كرم أهل شحات وشبابها الذين لم يبخلوا عليهم بالعناية والقيام بما يلزم. وصل إليهم رئيس الديوان الملكي مبعوثا من الملك. قابلته مجموعة من المشاركين، أبلغهم بحالة الملك الصحية وتسلم منهم عريضة تندد بالتزوير وإفساد الانتخابات وتطالب الملك بالإصلاح والتدخل. عادت الحافلات ومن على متنها، ظلت الأمور تسير على مهل، والمنطقة تغلي، والفراغ، والكل ينتظر خطوة أخرى.
شارك الملك في مؤتمر القمة العربي الثاني، امتص غضبة الشارع التي حصلت في يناير الذي فات. وبعد أشهر، وإثر وقوفه على الفساد الذي وصل للانتخابات، حل البرلمان ودعا إلى انتخابات جديدة أجريت بالفعل في العام التالي 1965، وكانت آخر الانتخابات تلك الأيام.
1964.. أحداث تراكمت وتواصلت، انفجرت ولم يتوقف لهيبها.. سوى بعد حين!