Atwasat

الخبز الرخيص وتدجين الشعوب

سالم العوكلي الثلاثاء 10 مارس 2020, 02:40 مساء
سالم العوكلي

ابن عمي ومعلمي في الابتدائي الأستاذ صالح عبدالحميد، شاعر شعبي، وسارد شفوي مبدع لحكايات صغيرة تحدث له يحيلها إلى نصوص سردية مفعمة بالتشويق والفكاهة، ما يجعل الجميع يلتف حوله كلما حل في مناسبة اجتماعية، وفي الفصل الدراسي كان يحيل كل ما يصعب علينا في المنهج إلى حكايات طريفة أو أبيات شعر شعبية نتغنى بها ونحفظها عن ظهر قلب.

كان مرة يحدثنا عن تجربة محاولة زيارته لقريبه في سجن بوسليم أواسط تسعينيات القرن الماضي، الذي عزل من في داخله عن كل تواصل أو سؤال، ومن مسؤول أمني إلى مسؤول أعلى كان يتنقل مستخدما ذخيرته من الشعر الشعبي والفكاهة لاستجداء ما تبقى من إنسانية أو شفقة في قلوبهم. يقول حين وصلت في النهاية إلى إدارة السجن وغازلت أفراد الحراسة بكل ما أملكه من مواهب سُمح لي بمقابلة آمر السجن، لم أستطع الدخول إلى مكتبه لكني انتظرت في الردهة (ويصف تفاصيل تلك الردهة بدقة وبما يوحي بطبيعة المكان الذي يحاول خدش القسوة فيه) وبعد ساعات خرج علي ضابط كبير، فارع الطول وممتلئ الجسم يرتدي بزة عسكرية فاخرة بها أزرار لامعة، ولأن طولي بالكاد يصل النياشين على صدره، رأيت (صالح) صغيرا في أحد أزراره اللامعة.

في إحدى رسائل كافكا لصديقته فيليس بوير يصف لها خشيته من السلطة، ولحظة مثوله أمام المحققين قائلا: «شعرت بأني صغير جدا بينما وقفوا حولي مثل العمالقة». واصفا حالة التلاشي أمام السلطة بشكل مباشر التي عبر عنها المعلم صالح بشكل أكثر فنية حين رأى نفسه ضئيلا في أحد أزرار الضابط المحدبة. في كتابه عن رسائل كافكا ركز إلياس كانيتي على الكلمتين Macht والصفة منها Machting (قوة، سلطة) والتي شكلت رهاب معظم رواياته وثيمتها الأصيلة، راصدا في سرده تفاصيل تمارينه الروحية والجسدية على الابتعاد والتلاشي كي لا يكون مرئيا، وفي صيغ كثيرة، منها اختزال اسمه في الحرف الأول منه K أو السيد ك، ويقدم كانيتي اعتذاره على أنه «لم يقم إلا بجزء يسير مما يمكن قوله عن السلطة والتحول عند كافكا» وحسب رأيه من بين جميع الكتاب كافكا هو «الخبير الأعلم بالسلطة». من بين أقصى تجلياته في هذا التحول أمام رهاب السلطة بكل أشكالها روايته «المسخ» التي تحول بطلها ذات صباح إلى حشرة.

تابعت مرة فيلما وثائقيا حول فنون العمارة ورهبتها في قصر طاغية رومانيا تشاوسيسكو، وبقراءة في أبعاد هذه الهندسة السيكولوجية توصف الممرات والأعمدة والأسقف التي يسير عبرها من يود مقابلة الحاكم بشكل يجعله يتضاءل تدريجيا إلى أن يرى نفسه حين يمثل أمام كرسي الطاغية وكأنه حشرة. وهكذا، وعبر الكثير من فنون شرط العلاقة بين الطغاة والآخرين، يتشكل هذا الرهاب المتبادل، غير أن الطغاة تمرنوا وتفننوا في تمارين التلاشي التي تجعل من الرعية مسوخا صغيرة أمام جبروت القوة والسلطة، وهو عقد تاريخي قديم كم تمخضت عنه من أسطرة وعبادة لهؤلاء العمالقة الذين سخروا كل طاقاتهم التعبوية من أجل صناعة الخوف في أذهان شعوبهم، وعبر التاريخ لم تكتشف الشعوب هشاشة هذه النمور الورقية إلا حين يحررها الغضب الجماعي من الخوف ويسقطون عروشها عبر ثورات هائجة، ونهايات الطغاة وما يحيط بهم من (سلطة وقوة) التي رصدها التاريخ القديم والجديد تؤكد أن الخوف الأصيل القابع داخلهم هو ما يجعلهم يصدرون هذا الخوف عبر العنف الأعمى الموجه إلى خارجهم. لكن شعورهم بأن شعوبهم حشرات أو حيوانات مدجنة كان دائما وراء تكتيكاتهم في ممارسة السلطة والبقاء فيها.

يقول الكاتب عبدالرحمن شلقم في كتابه (نهاية القذافي ــ ثورة 17 فبراير. يوميات، وأسرار، وشهادات) صفحة 67، 68 : «ذات مرة، وبحضوري، قال محمد عبدالمطلب الهوني لسيف الإسلام القذافي: "أنتم تحتقرون الشعب الليبي، وتعتبرونه جبانا، والتاريخ يقول لا يوجد شعب جبان، ولكن يوجد شخص أو أشخاص جبناء" ، رد سيف "بأن الليبيين أبقار ونعاج، كل همهم ــالعلفةــ أي أن يعبئوا بطونهم ويرقدوا" قال له الهوني: "قد يكون هذا صحيحا، لكن النعاج تولد الأكباش، والكباش تنطح، وتكسر الأذرع والصدور"، كان الهوني يومئذ يتنبأ بـ 17 فبراير.». وبالتالي لم يكن غريبا أن يصف الطاغية من تجرأوا على سلطته بالجرذان.

ومن هذا الباب حرص النظام على توفير السلع الأساسية للعيش، وعلى الخبز بسعره الزهيد لعقود متتالية، وهو سعر الخبز الذي يتباكى عليه الآن الكثير من الليبيين الذين مع الوقت ألفوا هذه العلاقة النفسية مع السلطة التي دربتهم على العيش ومنعتهم من الحياة، والفارق كبير بين العيش والحياة، أو كما قال الوريث السابق لهذه العلاقة المريضة بين الحاكم وشعبه، سيف الإسلام: «كل همهم العلفة» والعلفة كانت تلك السلع المدعومة والخبز الرخيص الذي حل محل كل حقوق الإنسان بوصفه إنسانا. سيف الإسلام نفسه الذي ما زالت بعض النعاج والأبقار تطرح عودته للمشهد السياسي، أو أن يتقلد من جديد زمام حكم هذه الجغرافيا التي كان ينظر لها كحظيرة.

في منتصف التسعينات من القرن الماضي، حدثت أزمة مفاجئة في الدقيق، ما انعكس على توافر الرغيف في المخابز، وكان مشهد الطوابير الطويلة والشجار أمام المخابز ملحوظا. في أحد الطوابير أمام مخبز بمدينة درنة يطلب الشيخ الطاعن في السن 50 رغيفا، وتذمر شاب خلفه في الطابور، وقال: «أكيد تبيها للمعيز يا حاج؟!» فالتفت الشيخ وقال له: نعم.. لأن الماعز حين تغيب عنه العلفة يصيح.. وليس مثلكم». وكانت كلماته كافية لتنشر الخوف في الطابور الذي سعى كل من فيه في تلك اللحظة للتلاشي أو الاختفاء خلف الحرف الأول من اسمه.

في قصيدته (النمل) يقول الشاعر عبدالرحمن الأبنودي:
لا نظره عابره للوجود .. لا فكره توحي بالخلود.. ما خلده إلا عماه
إلا احتماه.. بتوافه الأهداف، ورضاه بسنّة لقمة حاف
وإيمانه بأن أفضل الجسد هوه الكتاف!!
ويسحب ع القبور قتلاه.. بلا أثر للحزن أو معاناه
لا دمعت العيون، ولا قوّس الغضون على الجباه
ولا أنّْ... ولا قال آه .. النمل مالوش صوت!!