Atwasat

الثقافة وطن، قال الحكيم

جمعة بوكليب الخميس 05 مارس 2020, 01:53 مساء
جمعة بوكليب

في زيارتي الأخيرة للقاهرة، لحضور معرضها الدولي للكتاب، في دورته الحادية والخمسين، حرصت على اقتناء السيرة الذاتية للكاتب المسرحي والروائي المرحوم توفيق الحكيم. السيرة، باختصار، وضعها الحكيم في مؤلفين أطلق على الأول عنوان «سجن العمر»، وألحقها بثان سماه «زهرة العمر».

في سجن العمر ركز على النشأة الأولى في مدينة الإسكندرية: الطفولة والصبا، أجواء العائلة، الأب القادم من الريف، والأم الإسكندرانية وطبيعة العلاقة بينهما، وكذلك تسليط الكثير من الأضواء على طبيعة الحياة في عالم ما قبل الحرب العالمية الأولى. وركز في الجزء الثاني على رحلته الطويلة لتحقيق ذاته ككاتب، عبر رسائل كتبها في باريس إلى صديق فرنسي اسمه أندريه، كان قد انتقل للعمل في مدينة أخرى. الحكيم ذهب إلى باريس لتحقيق حلم العائلة في الحصول على الدكتوراه في القانون ليصير قاضيا مثل أبيه، لكن شغفه بالأدب وبالثقافة وبالمسرح خصوصا، وسعيه لأن يكون كاتبا مسرحيا «مشخصاتيا» أوقعه في حبائل الفشل، فعاد إلى الإسكندرية بلا شهادة. وبعد عودته إلى الإسكندرية فاشلا تواصلت المراسلة بين الصديقين، ودامت لفترة حصول الحكيم على عمل كوكيل نيابة في مدينتي طنطا ودسوق.

استمتاعي بقراءة السيرة في جزءيها يعود إلى سابق علاقة قديمة تأسست بيننا منذ سنوات طويلة تعود إلى مطلع فترة شبابي في بداية السبعينات من القرن الماضي. وبالتأكيد، أنا لم ألتق الحكيم في حياتي، ولا يعرفني، لكنها علاقة جمعت بين قارئ محب وكاتب مجيد، ساهم بفاعلية في إثراء الساحة الثقافية العربية عموما، والمسرحية خصوصا. وأعتقد، ودون مبالغة، أنني قرأت أغلب ما نشر ووصل إلينا في ليبيا من مؤلفاته الروائية والمسرحية، وكنت كذلك حريصا على متابعة ما ينشر حول شخصه وكتاباته من مقالات في الصحف والمجلات. إلا أن تلك العلاقة، بسبب الظروف، وما حدث من تقلبات وتغيرات وتطورات في مسارات حياتي، أصابها الذبول والضمور من جانبي، لكن الحب والدفء اللذين منحتهما لي ظلا كامنين في حنايا القلب وخلايا الذاكرة.

والحقيقة، أنني مدين بالشكر في استعادة علاقتي بالمرحوم توفيق الحكيم للصديق الكاتب نورالدين النمر، لأنه خلال مكالمة هاتفية بيننا، أشار في حديثه إلى سيرة توفيق الحكيم وحثني على البحث عنها واقتنائها وقراءتها. وأنا ممتن لنصيحته القيمة، لأن الكتابين منحاني أوقاتا طيبة، ومتعة لا تقدر بثمن، وأعادا إلي ذاكرتي وقلبي ما كنت أعتقد أنه صار هباء منثورا من ذكريات ودفء إنساني نبيل، مع كاتب أسهمت مؤلفاته في تكوين شخصيتي كإنسان أولا، وككاتب ثانيا.

السيرة بجزءيها ليست سيرة بالمعنى المتعارف عليه، لأن الحكيم في المقدمة يكتب موضحا بأنها «ليست مجرد سرد وتاريخ لحياة.. إنها تفسير لحياة». وهي مقارنة مع غيرها، تعد قصيرة، وينقصها الكثير من التفاصيل المهمة المتعلقة بتوفيق الحكيم الإنسان. وعلى سبيل المثال فهو يتجاهل، عمدا، التعرض لحياته الزوجية، وعلاقته بزوجه، ولا يأتي على ذكرها إلا مرة واحدة عرضا. وهذا بدوره يفتح الباب أمام العديد من الأسئلة. كما لا يأتي على ذكر علاقاته بنساء أخريات، وبالمرأة عموما، إلا قليلا خصوصا لدى وجوده في باريس من خلال تعرضه لامرأتين واحدة فرنسية جارة له تقيم في المبنى نفسه، يحكي عنها قليلا بوله وحب، لكنه كان حبا من طرف واحد. وأخرى أوروبية أجنبية، اضطرت إلى مشاركته العيش في مكان إقامته الصغير، بعد أن تخلى عنها حبيبها الإسباني.

في حياة كل كاتب أزمة، بل أزمات، لعل أشدها مرارة عدم القدرة على التفرغ للاطلاع والتأليف. فالكاتب العربي، باستثناءات قليلة، على عكس الأوروبي، ما زال غير قادر على العيش معتمدا على ما يكتب وينشر، وما زال يسعى لتأمين لقمة عيش كريم من خلال عمل آخر لا علاقة له بالتأليف وبالثقافة. ونجح توفيق الحكيم بشكل كبير في رصد هذه الأزمة، من خلال مكابداته بين ما يريده لنفسه من مستقبل وما تضعه أسرته عليه من ضغوط لتأمين عيش كريم بعيد كل البعد عن المسرح والفن والثقافة.

ما يثير الدهشة، ويبعث على الإعجاب ما يرويه، في الجزء الثاني من السيرة المتعلق بوجوده في باريس، وشغفه بالاطلاع والتعلم في مختلف فروع المعرفة، وفي توطد علاقته بالموسيقى الكلاسيكية الأوروبية وبالأداب والثقافة، وعشقه للمسرح الفرنسي ولكتابه ومؤلفيه، ومعرفته التي توطدت بتفاصيله الثرية. وكذلك من خلال ما يطرحه من آراء عميقة ذات علاقة بالتاريخ والثقافة الإنسانيين وما يعقده من مقارنات ذكية بين الثقافتين العربية والأوروبية. ووصوله، من خلال وحضوره للحفلات الموسيقية والعروض المسرحية، وقراءاته في الأدب والتاريخ، إلى قناعة مفادها أن الثقافة وطن عالمي، يجمع العربي والفرنسي والروسي وغيرهم، تظلهم سماء واحدة، وكأن مراكز الإحساس فيهم متصلة بسلك واحد. والأهم سعيه الحثيث لأن يكون كاتبا مسرحيا بأسلوب خاص مميز، والخروج كلية من جبة الأساتذة الذين أحبهم وتأثر بأعمالهم، وأهمية أن يشق طريقا لنفسه بينهم، ويستحق، بجدارة وموهبة، أن يكون معهم، وضمنهم.