Atwasat

ربيع الصحارى الكبرى

أحمد الفيتوري الثلاثاء 03 مارس 2020, 12:43 مساء
أحمد الفيتوري

تذكرت أن رفيقها ليلة البارحة قال: إنها الحرب فلتسقط الراء، حين كان يُسقط ثوبها عنها، بهذا الشعور استقبلت أنها ولجت أرض معركة حامية الوطيس، هي من لم تسمع مرة صوت إطلاقة رصاص غير ما سمعت في الأفلام والتلفزيونات، ولم تدرك سقوط مدينة النور بين يدي هتلر، وحتى جدها العسكري كان قد تقاعد حين أدركت وجودها، الآن وفي غضون أيام أضحت شاهدا على ما يجعل شعر رأسها الأسود يشيب: رؤوس مقطوعة، أجساد معجونة، بطون مبقورة لشباب تظاهر سلما، فووجه بالأغراض العامة و"الميم ط"، عرقها يتقاطر على جهازها، وهي تكتب تقريرها رغم برودة الجو تحس أن بدنها محموم، وأن أرجعت الحمى لليلتها الفائتة، فإنها لم تغفر لنفسها تحممها عارية بالماء البارد في الفيافي. باغتها حال السيارة التي بعدت عن أرض المعركة وموتورها يغص من السرعة، وتلال الرمال التي تقفز عنها، لم تفطن إلا حين رقبت عن بُعد من خلال زجاج السيارة، غزالة طائرة في الهواء، ثم تنبهت إلى أن الغزالة برشاقة وليونة ارتدت إلى خلف السيارة التي لم يُفلح السائق في إعادتها إلى الخلف، حتى كانت الغزالة كما سراب تبدد، ذُهلت وهي تُنصت لرفيقها يكرر مفرداته بتأنٍ، بما معناه أنه طارد الغزالة لأجل أن يُهديها لها، أفزعتها الفكرة، وما هدأ من روعها، ما تداعى على ذاكرتها، أنها في مراهقتها طالعت رواية شدها إليها العنوان: سأهبُك غزالة، ثم عرفت أن كاتبها الجزائري مالك حداد، وكان رفيقها ذكر لها الغرض من إهدائها الغزالة، بأنها قرينتها في الكائنات، رّضت نفسها بهذا الغزل، وهي تغوص في ذاكرتها: وجه رفيقها كما لو كان وجه ذلك الشيخ الليبي المقاتل، الذي جاء نبأه في الرواية، بأنه كان فارا من مُطاردة فيلق إيطالي، أثناء حربهم للسيطرة على بلاده نحو صحراء الجزائر، حين تاه، تاهت معه أسرته، وابنة شابة صهباء من حور العين، قيل تحولت إلى سيرانه تجعل عابري الصحراء، يغرقون في أمواج التيه التي تطلقها في مواجهتهم، فيما بعد أولت تشابك علائقها بالمكان، والرواية، ورفيقها، بأنه ما زرع جدها في جناتها، ما أشعل ولعها وما ألهب روحها، لم تخرج من يمَ الروح، حيث غرقت إلا بصوت طائرتين ما سمعت ثم رأت ومن خلال الألوان المبقعة أدركت أنهما طائرتان حربيتان، ما أرعبها وجل الرفيق، وخوف السائق حينها انثال على مخيالها ما رأت في المستشفى من خلائط، أطراف بشر، وشظايا أجساد، ما زاد وجلها أن طائرة حامت حول السيارة، وانتبهت إلى أن الرفيق يلوح بعمامة رأسه المكونة من قطعة قماشة بيضاء طويلة جدا، فكرت أن تفتح الباب وتطوح جسدها على الرمال لكن الطائرة اختفت والسائق أوقف السيارة، قال الرفيق مهدئا من روعها: هل تعرفين أن أول إسقاط لطائرة حربية هو إسقاط طائرة إيطالية قبيل الحرب العالمية الأولي ما تم في الصحراء الليبية وببندقية راعٍ، لأن الطيار المتهور اقترب من الراعي ليخيفه، وهكذا أصابت رصاصته خزان وقود الطائرة، ثم أخرج الرفيق كلاشنكوف من تحت كرسيه وأطلق زخات رصاص نحو السماء لحظتها سمعت انفجارا مدويا، ولم تعرف أصاب السيارة أم أنه عن بعد زلزل المكان ما عرفته جيدا أن جسدها يهرول مسرعا بين كثبان الرمال وأن روحها طائشة.
في المستشفى رأيت صبيا أصهب يعدو، ودماؤه تشكل خلفه لوحة سريالية على زليج الأرض الأزرق والأبيض ما خلته علم بلادي، كنت أتمتم بنشيد "المارسليز"، حينها الصبي أخذ يصرخ بكلمات لم أفقهها، لكن بدا وكأنه يستغيث، خطف أنظاري وهو يجر حاملة الجرحى مهرولا نحو الباب الخارجي، حيث اختفى ليعود سريعا، ممسكا بطرف من الحاملة ومعه آخرون، وصوت أنين من في الحاملة يصم أذني، رأيته يعدو ودماؤه خلفه تشكل لوحة واقعية جعلتني أنهض من عجز لم أتبين أسبابه، وخور صابني، ثم تبينت أن من في الحاملة طفل لم يتعد العاشرة، وأنه مصاب برصاصة في الكتف، شرح لي طبيب أنه أصيب في مظاهرة سلمية، ووكد على كلمته الأخيرة بأن أعادها، وكانت لغته الإنجليزية لا تُسعفه بالشرح، لكن المفردة والطفل لم يكونا بحاجة لشرح. ثم حازت الشراشف البيضاء المشهد، لكن الأصوات ماجت فيما لم يعد للأنين مسمع فقد امتلأ المكان، بجمع منهم، ثلاثة يحملون في أغمارهم أطفالا جرحى، ولم أكن أصدق ما أرى وأسمع، وإن توكدت من أنهم أصيبوا برصاص طائش، أطلق على تظاهرة انخرط فيها الكثير من الأطفال العائدين من المدرسة، دون أن يفطن بهم أحد من الكبار الذين هرولوا في كل اتجاه خوفا.

غمرني حزن شفيف، فيما عرق يغسل جسدي رغم صقيع الجو والمكان، ما هيأ لي أن حمى ليلة البارحة تترع جسدي، ما تداعى حينها، اجتاحتني رعدة حتى صكت أسناني، طفلة عائدة من المدرسة نزلت من الباص قرب بيتنا، فدنا مني رجل لا أعرفه، وغمرني في كتره بيديه القويتين، صرختُ ماما، لكن حشرجة خرجت من حنجرتي، لم أفق إلا في المستشفى، لم أعرف ما حدث البتة لكن جرحا بات في جسدي، وفي نفسي ينز، ينكأ بجراح الآخرين. انتشلني من غرقي، وأخذ يجرني بعيدا، ثم رماني في حفرة، وغطاني بجسده العجوز القوي، تذكرت ذلك وهو يمسك بيدي بقوة حين لاحظ الحزن الذي غمرني، هذا الدفء وهذه اليد، يد جدي، لذا لم أفطن أنه شكلني، وجعل من صنوه، معشوقي الساعة من في غضون أسبوع ليس إلا انتشلني من ضياع وجودي لا تعرفه الكتب ولا تسرده الحكايات القديمة. غمرها ما يحدث ولم تُرِدْ أن تعرف هل أنها غارقة في يم من رمال وأحداث، أم أنها تطفو في بحر رغبات تتحقق، وأمانٍ تطال، لقد توكدت من انتشاء جسدها لحم روحها.

لم يكن يتحدث، فيه طباع الجمل يزبد ويرغي، وهذا يذهب فيها حد أنها لم تفهم أيما شيء كما فهمته، رجلها الآن، وصنو توقها، من هام أبوه طفلا في العاشرة، تغمره كثبان تلو كثبان، وهو يغوص فيها، ورصاص الطائرة الطائش تسكبه السماء مع مواشير الشمس الحارقة الخارقة، لم يكن يدرك أنه تائه، أو أن النجع تاه عنه حين انبثق جنُ السماء الأسود، ما لم يرَ أحد قبل جنا من حديد، ينفث الرصاص ويطير قرب الرؤوس، مما جعل أباه يُطلق من بندقيته العصمالية طلقات "فوشيك" ليقي نفسه من العجز ليس إلا، أبوه مغوار عنده، لكن كما هو لم يشاهد جنَ حديد قبل، في تيهه تبين له أن لا حامي الآن إلا الجبل، فليس لأبيه قدرة على ذا الطوفان.

تم إسقاط تلكم الخارقة للسماء ولم يتبين أحد بما: هل بارود أبيه الفاعل أم رب السماء، وكما فاجأهم السقوط المفاجئ، فاجأهم ما ترتب عن السقوط، كائن كما البشر ترتب عن ركام الساقط المحترق. فجعة السقوط، وفجائع ظهور جنِ الحديد، وما يسكبه من نيران عليهم، لم يكن ذلكم كما فجعة ما انبثق لهم، ضابط بملابس عسكر إيطاليا، ما فروا منهم زاحفين على الأرض تسقطه عليهم السماء، فجائع لا تنحسر، وتضطرد، كأنما الأرض والسماء انحازا إلى العدو، ما لم شهدوا قبل ولا مثله واجهوا.

قال إن أبيه قال له إن جدهُ في عجز وخوف من الحياة، وليس من الموت، رفع يديه وصرخ: يا رافع السماء دون عمد، سماؤك كما الأرض تُسقط علينا طيراً أبابيل من جسد، بشرا بيضا حمرا بشعر أشقر وعيون زرق، من فج بعيد جاءونا من بلاد إيطاليا.

وهي تسمع ما تسمع من أزيز الطائرة، والرصاص ينسكب خارقا جسد الصحراء من حولها فينبثق منها نافورات صغيرة من رمل كما الدم، كذا تسمع جدها يحدثها في وجل عن أول يوم وطأ الصحراء، حين تقيأته طائرة النقل العسكرية التي نقلته من الجزائر المدينة إلى صحراء فزان، وكادت مظلتهُ تغدر به حين تمنعت عن الفتح، هي تنطرح على بطنها تغرس جسدها في الرمال كما فعل جدها منذ أكثر من نصف قرن، قال لها أن مهمته احتلال الأرض التي يحتلها العدو، لذا انغرس في الرمل، فما دافعها لتنغرس قالت لنفسها، قال أنه أخذ كمشة رمل، وبها مسح وجهه، ففي الأرض السلامة، مس الجسد، عندئذ دست بدنها كما حية في الرمل، وسكنت. ثعبانا رأت ساعتها يتلوى زاحفا خائفا مبتعدا، وأرانب وجرابيع تقفز من جحورها تاركة الملاذ في هلع، رأت هاتيك الهجة، وهي رابضة في الأرض، فالسماء ساعتها ترسل جحيمها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل من رواية ربيع الصحارى الكبرى ينشر لأول مرة .