Atwasat

"لا" جملة كاملة!

محمد عقيلة العمامي الإثنين 02 مارس 2020, 02:48 مساء
محمد عقيلة العمامي

كادت محاولة إقناعي مكتب صرافة، في القاهرة، بحجتي أن تتحول إلى شجار خصوصا من بعد أن التف حولي ثلاثة رجال عمالقة يتطاير الشرر من أعينهم. محاولتي كانت تهدف إلى أن الإجراء الحضاري الجديد بإصدار بطاقة إقامة رسمة أنيقة، بدلا من إلصاقها بجواز السفر، تحل محل الجواز في إبرازها كتعريف رسمي باعتبار أنها صادرة من زارة الداخلية، ولكنهم لم يعترفوا بها. ويريدون بطاقة الإقامة والجواز أيضا! حاولت أن أوضح ذلك لرجال المكتب العمالقة ولكن فضلت الانسحاب خوفا على بقية أسناني!

في الحقيقة أنا لا أهدف إلى مناقشة مساءلة بطاقة الإقامة هذه، ولكن هدفي أن أفهم هذا الإصرار الذي تتعامل به معظم البنوك في إيداع أو صرف قيم لعل أبرزها ما تحوله بنوك خارجية إلى مستفيدين داخل جمهورية مصر العربية. أنا أعلم أن مصر مستهدفة من العديد من المنظمات التي لا تريد لها الخير، وتخشى أن تكون هذه الأموال غايتها تمويل عمليات إرهابية، ولكن في تقديري أن تتبع من يستلم هذه القيم هو على نحو ما تتبع لخيوط ما تخشاه الأجهزة الأمنية.

غايتي من مقالي هذا هو أننا نتصرف على أساس أننا نحمى بلداننا من خطر الإرهاب، ولكننا أصبحنا نعرضه إلى خطر الإرهاب الاقتصادي، في ليبيا على سبيل المثال، وهذا أمر لم يعد سرا مليارات من الدولارات واليورو، والإسترليني والفرنكات السويسرية والفرنسية، حُولت ومازالت تُحول رسميا أو غير رسمي، إلى أوروبا بالتأكيد، إما من خلال مشاريع وهمية، ومنه ما كان لمشاريع مبالغ فيها، ناهيك عن ملايين من عملات صعبة ملفوفة بأربطة بلاستيكية سرقت من كل مكان، وهربت خارج الحدود، وما أمسكت به سلطات الحدود ليس سوى نسبة بسيطة!.

لقد وصلت هذه الأموال أوروبا، ويظل ما أودع بمصارف أوروبا أكثر بكثير مما أودع في أية دولة عربية أو أفريقية. والسبب في الغالب بسبب الإجراءات.

سويسرا، على سبيل المثال، أصبحت رسميا مخزنا لعملات العالم كلها بما فيها تلك التي أطلق عليها الأموال القذرة! لأنه لا أحد يسألك عن مصدر أموالك، أو يطلب منك إقرار عملة، أو مستند تحويلها.

قيل منذ منتصف القرن الماضي: "أن الصمت المطبق، والسرية التامة التي تحرص عليها بنوك سويسرا جعلتها تغرى ثروات العالم النظيفة، وأيضا تلك التي أصبحت نظيفة بمجرد أن وصلت خزائن بنوك زيورخ، لدرجة أن صحيفة "الإيكونيميست" البريطانية الشهيرة كتبت ذات مرة تقول: "أصبحت كلمة "زيورخ" في الأعوام الأخيرة كلمة قذرة".

لماذا تنتهي ملايين رجال العصابات والديكتاتوريين من قارات العالم كافة، وأيضا رجال الأعمال، خصوصا البطالة، تنتهي في خزائن سويسرا؟ الجواب: "لأن رجال بنوك سويسرا بُكم؛ لا يتكلمون قط! " والموظف الذي يجيب على استفسار عن رصيد ما يغرم ماديا ويسجن ويطرد من الخدمة، ويقول العارفون أن ما يودع في بنوك سويسرا وكأنه مدفون في صحراء الربع الخالي! والبنوك لا تعلق اسمها على مكاتبها، لأن عملاءها يعرفون كيف يتصلون بهم، ولكل زبون شفرة خاصة لا يعرفها أحد سواه، ولهذا تطير إليهم الأموال القذرة، وبسبب ذلك تتوخى السرية التامة، أجاب أحد المحررين الماليين لأحد المصارف السويسرية قائلا: " إن المحافظة على السرية التامة جزء من طبيعتنا، فأنا لا أعرف ماذا يفعل الرجل الذي يجاور مكتبي، ولا ماذا يفعل، ولا أين يعيش، فهو يفضل طريقا وأنا أفضل أخرى!" وعلق مدير بنك كبير لافته كتب عليها: "في هذا المكتب تعتبر كلمة (لا) جملة كاملة!" فلا يستطيع أحد أن يعرف منه شيئا سوى صاحب شفرة الحساب المصرفي، أما لغيره دائما: "لا أعرف، أو لا يجوز".

سويسرا كانت وما زالت الملاذ الآمن للأموال في أعقاب أية حرب تدور في أية بقعة في العالم! فيها الآن حوالي 1500 بنك تحتفظ بأموال تقدر برقم عدد أسفاره يندر من يستطيع قراءتها. وعندما حاول (جستابو) النازية إجبار المودعين في سويسرا المشكوك فيهم على سحب أموالهم رفضت البنوك الانصياع لتنفيذ أية أوامر إلاّ بحضور صاحب الشأن.

ويظل الديكتاتوريون الحاليون والسابقون هم سبب انتهاء الأموال في بنوك سويسرا، فالتي لا يطالب بها أحد تعد في الواقع غير موجودة، وأن الودائع التي لا يطالب بها أحد تصبح ملكا للبنك نفسه وليس للدولة! ويلاحق رجال الضرائب أثر الأموال المهربة، ولكنهم يقفون أمام أبواب سويسرا، التي ترفض أن تبوح بأسرارها، مُصرّين على أن الصمت، الذي أثبت على مر السنين أنه لا يهزم، هو خدمة لأمن بنوكهم.

فبالله أقنعوني كيف تمكن بضعه "توار" يعرف الناس كيف كانوا قبل فبراير، وكيف أصبحوا ومن أوصلهم إلى سويسرا بدولارات "تذبح الطير" ملفوفة بأناقة ببلاستك شفاف، تحتاج إلى حاويات سعة 40 قدم لنقلها، من دون مساعدة خبير مالي يعرف أن (لا) جملة كاملة. في حين أن (لا) تستخدم في بنوكنا قبل استلام أية أموال، حتى وإن كانت نظيفة.