Atwasat

فلسفة عربية معاصرة؟

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 23 فبراير 2020, 01:03 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

في أحد مقالاته*، يقرر جورج طرابيشي أن لا وجود لفلسفة عربية حديثة أو معاصرة، وإن وجد شيء منها فهو مترجم أو امتداد للترجمة. "يصدق ذلك على توماوية يوسف كرم، ووجودية عبد الرحمن بدوي، وجوانية عثمان أمين، وشخصانية عزيز الحبابي، وماركسية سمير أمين، وفيورباخية حسن حنفي وهوسرليته في آن معا".

بعد تقرير"هذه الحقيقة الواقعة"، يتساءل: "لماذا لا توجد، ولماذا يكاد يستحيل أن توجد فلسفة عربية حديثة أو معاصرة؟".

ويرد ذلك إلى "ثلاث سلاسل متراكبة من السببيات".

تتمثل سلسلة السببية الأولى في كون "الفلسفة المعاصرة نفسها، على الصعيد العالمي، في أزمة". وهذه الأزمة أدخلها فيها تطور العلم. ذلك أن الفلسفة"رأت النور وازدهرت قبل أن يرى التصور العلمي للعالم النور" حيث مثلت هي دور البديل عن هذا التصور المعدوم. فالفلسفة إذن، يمكن تعريفها "من هذا المنظور، بأنها ما قبل تاريخ العلم". لكن منذ أن دخل العلم ساحة المعرفة وفرض نفسه "أداة وحيدة للمعرفة وللسيطرة على الكون راح مجال الفلسفة يتقلص، وراح العلم يجردها من حقول تخصصها الواحد تلو الآخر". فقد جردتها الفيزياء الرياضية من معرفة الطبيعة والكون، وجردها علم الأحياء والتشريح من مجال "خلقة الإنسان"، وافتك منها علم النفس الموضوع الأثير في استكناه النفس البشرية، إلى آخر الميادين المعرفية التي جردتها منه العلوم الطبيعية والاجتماعية.

"ولكن إذا كانت فتوح العلم قد سدت [في وجه الفلسفة] على هذا النحو الطريق إلى الما قبل فقد أبقته مفتوحا إلى الما بعد". وبذا لم يعد لها في العالم الحديث والمعاصر سوى موقع في الهامش. "فمن فعالية عقلية في ما قبل العلم تحولت إلى فعالية عقلية في ما بعد العلم. فحصرت نفسها تارة بمجال القيم والغايات النهائية، وأرادت نفسها طورا آخر فلسفة علمية خالصة تعمل حصرا على مستوى الابستمولوجيا، أي معرفة المعرفة. ولكن في الحالين معا غدت الفلسفة مرهونة بالممارسة العلمية. فبدون أن تكون الفلسفة تابعة بالضرورة للعقل العلمي، لم يعد ثمة مناص من أن تكون تالية له،، لاحقة عليه". وعليه فإن "الثقافات الوحيدة المنتجة للفلسفة اليوم هي الثقافات المنتجة للعلم". وبما أن الثقافة العربية المعاصرة ليست منتجة للعلم، إذن "يتحتم أن يكون المتفلسفون العرب عالة سواء على الفلسفة الإسلامية القديمة أو الفلسفة الغربية الحديثة".

السلسلة السببية الثانية تتمثل في القاعدة القائلة أنه "لا يجوز لمجتهد أن يجتهد إلا على مثال سابق". وبهذا يجد المتفلسف العربي، وليس الفيلسوف، نفسه في هذا الموقف المعضل. وبغض النظر عن علاقة المتفلسف العربي بالتراث العربي الإسلامي فإن سبق" الغرب إلى اجتراح مأثرة الحداثة قد جعل كل ما يمكن أن يفكر به الملتحقون بركب الحداثة مفكرا به مسبقا. فالحضارة الغربية قد باتت، بحكم أسبقيتها إلى الحداثة، تتحكم بالزمان الثقافي للحضارات الأخرى". وبذلك أصبح حتى "المخرج النقدي – وهو المخرج الذي تؤثر الفلسفة العمل على مستواه" مسدودا. "فكل ما يمكن أن ننقد عليه الحضارة الغربية قد سبقتنا هي نفسها إلى نقد نفسها عليه". وبالتالي أصبح الخيار الوحيد المتاح للمتفلسفين "من مجتمعات ما قبل الحداثة ... لممارسة فلسفة ما بعد الحداثة... [هو] أن يكونوا مستهلكين، لا منتجين، لخطاب نقد الحداثة في الغرب نفسه، أو بعبارة أخرى: مجرد مترجمين".

السلسلة السببية الثالثة، تكمن في أن الفلسفة لا يمكن لها أن تنشأ وتزدهر إلا في بيئة اجتماعية وفكرية تؤمن باستقلالية العقل. والحال "أن العقلانية كشرط شارط لتمخض الفلسفة ما زالت بعيدة عن أن تكون صاحبة الكلمة الأولى في الثقافة العربية المعاصرة". وطرابيشي يرى أنه "في كل الثقافات ذات الابستميه الدينية كان يمكن للعقل اللاهوتي أن يضطلع بدور الوسيط بين العقل الفلسفي والعقل الديني. ولكن اللاهوت نفسه، كشكل معقلن من الدين، مازال منفيا من الثقافة العربية منذ أن كُفِّر فلاسفة الإسلام وطُرد علم الكلام المعتزلي خارج المدينة الإسلامية وتقلصت الحضارة العربية الإسلامية إلى محض حضارة فقه".

وإذا استكملنا الفكرة من كتابه"مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام"** نجده يقرر أنه "في ظل غياب للاهوت إسلامي فلن ترى النور فلسفة عربية". ذلك أن "اشتغال العقل الديني لازم لاشتغال العقل بما هو كذلك. وإذا امتنع العقل الديني – وطال امتناعه – عن الاشتغال، فلا مناص من أن يقوم العقل الفلسفي مقامه، فيمارس فعاليته، أول ما يمارسها، كعقل لاهوتي" ص126.

* الفلسفة العربية المستحيلة. في: جورج طرابيشي، هرطقات: عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية. دار الساقي بالاشتراك مع رابطة العقلانيين العرب، ط2، 2011. الصفحات 59- 63.

** دار الساقي. ط4، 2014