Atwasat

النفط الليبي وأوهام الخسارة والربح

سالم العوكلي الثلاثاء 18 فبراير 2020, 03:16 مساء
سالم العوكلي

تقول المؤسسة الوطنية للنفط، وجِهات أخرى دولية، أن خسائر ليبيا جراء إقفال المنشآت النفطية تتجاوز المليار دولار. لست مختصا في الاقتصاد ولا في السياسات النقدية، لكني أحاول أن أدلي برأيي عن مفهوم الخسارة كمواطن من المفترض أن يتأثر بالربح أو الخسارة في اقتصاد دولته، وهذا ما لم أحس به في الحالتين، وأعتقد أن غالب المجتمع الليبي يستغرب مثل هذه التصريحات حين تكون حياته اليومية مثلما/ أو أسوأ مما كانت حين هبط إنتاج النفط إلى 100 ألف برميل يوميا، وهبط سعر البرميل من 120 دولارا إلى 28 دولارا خلال أشهر، وظلت حياته ومعاناته كما هي حتى لما تجاوز إنتاج النفط المليون برميل يوميا وزاد سعره إلى 60 دولارا للبرميل.

أفهم فكرة الخسارة في الاقتصادات الديناميكية ذات المصادر المتعددة للدخل والتي تعتمد على الاستثمار وسوق المال والصادرات والقطاعات الخدمية والتنمية المستدامة، أما الاقتصاد الليبي فعبارة عن نفط يستخرج من باطن الأرض، يباع وتُحّول معظم إيراداته إلى مرتبات للعاملين بالدولة، والتعبير عن هذا الاقتصاد بجملة (إنتاج النفط) زيف، لأن ما يحدث هو استخراج النفط وليس إنتاجا له.

فلنتصور أن عائلة تملك كنزا من الذهب مخبأً في خزانة، وكل يوم تَسحب أو تضخ من هذا الذهب كي تحصل على قوت يومها وتدبر معيشتها، فإذا ما تقرر إقفال هذه الخزنة لمدة من الزمن فهل سيعتبر ذلك خسارة؟ خصوصا إذا ما عرفنا أن ذاك الذهب المسحوب كان يهدر في الفساد وفي تغذية الشجارات بين أفراد العائلة، ومعظمه يتم تهريبه إلى الخارج. ألا يعتبر قفل هذه الخزنة ربحا حتى تحل العائلة مشاكلها وتستغل ما وفرته من ذهب بعد ذلك في تنميتها ورفاهها؟.

أتمنى من مختص في الاقتصاد أن يجيب عن سؤال الخسارة هذا. لأني - كمواطن يحاول أن يتابع الشأن الليبي بأعلى حد ممكن للعقلانية ــ لم أحس بهذه الخسارة، مثلما لم أحس بما قبلها من أرباح ، بل إن المؤسسة الوطنية للنفط تعلن عن أرقام الخسائر فقط حين تحدث أزمة ولم تعلن يوما عن أرقام الأرباح حين تزول الأزمة. كما أن التقارير ظلت تتحدث عن أزمة الاقتصاد وهشاشته وعن إمكانية فشل الدولة حتى لما كان الإنتاج أكثر من مليون برميل يذهب إيرادها إلى البنك المركزي في طرابلس ولم تعد بالفائدة على الليبيين بل فاقمت معاناتهم. (ولأضرب مثلا، كان مرتبي وقت وصول النفط إلى أدنى درجات إنتاجه وسعره يعادل 400 دولار، وبعد أن تجاوز إنتاجه المليون برميل وزاد سعره الضعف تقريبا أصبح مرتبي يعادل 200 دولار، وهو ما ينطبق على أغلب الليبيين ذوي الدخول المحدودة) ولو كنت أرى مشاريع بنى تحتية تنهض في البلاد لقدّرْت ذلك واعتبرت الخسارة في المعاش تضحية من أجل الصالح العام).

كنت طفلا ألهو على الطريق العام الذي شقه إيتالو بالبو قرب قريتي لالي، وذات يوم قائظ تهب فيه القبلي وتسيح القار في حفرات صغير على الطريق، سجدت على ركبتي الصغيريتين وسط الطريق، كما يفعل رفاقي من الأطفال، من أجل أن أحصل بأسناني اللبنية على بعض القار السائح واستخدمه كعلكة، حيث كان حصولي على العلكة المعطرة مستحيلا. كان هذا في العام 1965 تقريبا، وبعدها بعقود كتبت عن هذه الحادثة، وقلت إن تلك العلكة السوداء كانت هي علاقتي الوحيدة بالنفط في وقتها، الذي تساءل حياله شاعر شعبي ــ ربما كان أطفاله يمضغون نفس العلكة ــ "وين ثروة البترول يا سمسارة؟". لكن ما لم أفكر فيه حين كتبت هذه الخاطرة المبتورة والمنفعلة، أنه في ذلك العام كانت تُبنى مدرسة قربي، قرأت فيها أول عامي الدراسي مع 7 أطفال فقط ، وحتى الآن وبعد أكثر من نصف قرن مازالت هي المدرسة الوحيدة في تلك القرية وتتسع الآن لأكثر من 500 طالب وطالبة، وأفكر الآن أن ذلك النظام ربما لم يوفر لي علكة معطرة لأنه كان مشغولا ببناء مدرسة في القرية ستكون قادرة على تعليم أبنائها لعقود قادمة. وفي هذه الحالة كنت سأفهم الخسارة لو أن ضخ النفط أوقف في تلك الفترة.

من جانب آخر تحصل أبي الذي كان يُعيلنا من قطيع ماعز صغير على عمل بوزارة المواصلات يقوم بموجبه بتنظيف كيلو متر من الطريق يوميا، حيث كان كل كيلو متر من الطريق العام الذي يربط ليبيا به عامل تنظيف يمارس دوامه اليومي، ومن ذاك العمل الذي تحصل عليه أبي بدأت حياتنا تتغير، واستطعنا بفضل ذاك المرتب أن نكمل دراستنا جميعا وعبر المدارس التي كانت تنشأ في كل القرى والمستوصفات وغيرها. وحين أمر الآن بالطريق العام وهي تتراكم على جانبيها، وفي قنوات تصريف مياه الأمطار، القمامة والحيوانات النافقة، أقارن بينها وبين ذاك الطريق الذي كان يبكر أبي إليه مع آلاف العمال لتنظيفه يوميا وتنظيف مجرى المياه.

يقول د.علي عتيقة، الذي شغل في ستينيات القرن الماضي منصب وكيل وزارة التخطيط والتنمية ثم وزيرا لها، في كتاب مذكراته (بين الإرادة والأمل): أن 70% من إيراد النفط كان يذهب إلى وزارة التخطيط والتنمية وما تبقى يذهب إلى باقي الوزارات. وكان وقتها القطاع الخاص نشطا يستوعب أكثر من نصف القوى العاملة في ليبيا، والنصف الآخر يتقاضى مرتباته من دخول الضرائب والجمارك على هذه القطاع وعلى الشركات الأجنبية. يقول اعتيقة العام 1972 وبعد أن تضاعف سعر برميل النفط أصبح 70% من إيراد النفط يذهب إلى بند التسليح فقط والباقي إلى معظم الوزارات. تقلصت ميزانية التخطيط والتنمية حتى وصلت إلى الصفر في بعض السنوات. ولو أوقف في تلك الفترة ضخ النفط الذي يذهب ريعه إلى شراء السلاح وتكديسه لحققنا أرباحا فلكية، ولوفرنا على أنفسنا هذه الترسانة من الأسلحة التي كدسها النظام السابق، وخاض بها الليبيون حروبهم الأهلية أو ذهبت إلى الإرهابيين في الدول ألمجاورة وغير المجاورة.

ما أردت قوله، خلال هذه السنوات الأخيرة التي كان يُضخ فيها النفط ويذهب ريعه إلى المصرف المركزي، لم تُبنَ مدرسة واحدة أو جامعة أو مستشفى أو مستوصف أو ملعب كرة أو تشق طريق أو جسر، أو تُبنَ مساكن أو تعطَ قروض للشباب لبناء مساكن، وباختصار فإن ميزانية التخطيط والتنمية التي تعود على المواطنين كانت صفرا، فكيف سنحسب الخسارة، وماذا سيخسر الليبيون المحترمون (غير الفاسدين) من هذا الإقفال؟ وماذا ربحوا من عدم الإقفال؟.

هي فعلا خسارة كبيرة لمن يسرقون هذا الريع، ولمن يشترون السلاح ومن يصدرونه لنا، ولمن يجلبون المرتزقة، ولمن يشترون العقارات الفارهة في كل القارات، لكن بالنسبة لـ 90% من الليبيين أن يبقى الذهب في الخزنة فهو أرباح يومية حتى تتشكل حكومة واحدة وسلطة تشريعية واحدة وأجهزة، ووزارة تخطيط وتنمية تضع خطة لاستثمار هذا المخزون النفطي في التنمية بما يعود على الليبيين والأجيال اللاحقة بالنفع.