Atwasat

سنة تاسعة فبراير

أحمد الفيتوري الثلاثاء 18 فبراير 2020, 01:00 مساء
أحمد الفيتوري

الجغرافيا الضربة القاضية في المسألة الليبية، هذا قبل التاريخ، كل من مهتم بالأسس يعرف ذلك، لكن التاريخ فج وصاخب، لأنه فعل إنساني، ولهذا ليبيا كلوحة تشكيلية، طبيعة صامتة، مُلونها الصحاري الكبرى... بذا ليبيا في الحرب، الحجر الأساس، وفي السلم، الحجر المنسي، هذا الحال المتناقض جعل من ليبيا مشكلا، أما إن أضفت إلى هكذا مشكل الثروة، كنوز الصحارى الكبرى، فإن ليبيا تكون البلاد، التي جعلتها الجغرافيا حجر الأساس، بلاد الثروة الأكبر في شمال أفريقيا، والسكان الأقل.

هكذا تاريخ ليبيا الحديث، دولة أولى مستقلة في شمال أفريقيا، ولما انقلبت الصحراء إلى بحر الذهب الأسود، تم الانقلاب على هذه الدولة الأولى، ومن أثر الانقلاب أن ليبيا باتت اللادولة في المنطقة، قائد الانقلاب لم يُنَظّر فحسب، لمشروع اللادولة، بل حقق على الأرض هذا المشروع، ولذلك ثورة فبراير 2011م قامت في بلاد اللادولة، وبهذا وغيره ثورة فبراير، لا مثيل لها في ثورات الربيع العربي.

كان دور قائد الانقلاب في ليبيا، إفقار البلاد، وفي المنطقة خلق القلاقل، وخوض حروب صغيرة، ضد الجيران، وحيث ما أمكن ذلك، ولهذا تم خلق "الشعب المسلح" في الخُطب، فيما تم أيضا إلغاء الجيش، والبديل "الكتائب الأمنية" أي المليشيات المسلحة، وواكب مشروع قبر الدولة في مهدها، إفقار البلاد وتجويع الشعب.

لما قامت ثورة الليبيين في فبراير، كانت ثورة فقراء، يعيشون على الكفاف، يفتقرون للأمن والاتصالات، وفي حال المحاصر في الداخل، ومن الخارج، وكان قائد هذه اللادولة، يُحرض الجماهير على العيش بالخبز والماء، وخوض الحروب ضد أعدائه، أعداء الشعب العملاء، وضد الدول العربية الرجعية، والإمبريالية العالمية، فقد كان قائد "مثابة الثورة العالمية".

كان قائد المثابة العالمية، وإمام المسلمين، وأمين القومية العربية، يحرض جماهير العالم على الثورة، ضد الأنظمة "المتعفنة"، حين باغتتهُ الجماهير في بلاده، بتنفيذ تحريضه، وخرجت الجماهير الليبية، على "بكرة أبيها" أو كما يقول، كما لم يحدث في تاريخ البلاد، كما خرجت جماهير المنطقة، في الربيع العربي، كما لم يحدث قبل.

لأربعين سنة ليبيا "الثورة"، دون دولة، ولأربعين سنة "قائد الثورة" دون منصب، يقود البلاد لتحرير العالم، ويخوض الحروب في المنطقة، ضد الأنظمة "المتعفنة"، دون جيش ودون دولة، أدار حروبه تلك، فقط بسلاح النفط، ثروة البلاد التي بددها في حروبه، حروب "دون كيخوته"، حاملا نظرية عالمية ثالثة، وإنجيلا جديدا "الكتاب الأخضر"!.

لم تأت ثورة فبراير، إلا كحصاد حقيقي وجذري، لما زرع "القائد" من بوار في اللادولة، ما عمل على تشييدها، حيث ازدهر الخراب، ولهذا في ليبيا، دون دول الربيع العربي، سقط النظام، قتل القائد، من خاض الحرب ضد شعبه، كان الفاعل الأوحد، من أجمع العرب للمرة الأولى في جامعتهم العربية ضده، في المؤتمر الإسلامي، في مجلس التعاون الخليجي، في الأمم المتحدة، مجلس الأمن، وتقريبا في كل المنظمات الإقليمية والدولية، لقد نجح "القائد" في جلب تدخل دولي إلى بلاده، حيث تم إجماع على إسقاطه، وكما لم يكن له مثيل، خلال أربعين حولا، فإن إسقاطه وإزالة نظامه، حدث بإجماع وتدخل دولي كما لم يحدث قبل.

ليبيا حجر الأساس المنسي، عادت، في الحرب ضد "قائد المثابة العالمية"، الحجر الأساس، فالجغرافيا تنتقم، وتعيد العالم إلى ليبيا، وفي هذا نجح "المفكر الثائر والقائد المعلم"، نعم نجح "رسول الصحراء" في أسر ليبيا حيا وميتا، فالحروب التي خاضها، في أوغندا، آيرلندا، تشاد، لبنان، نيكارجوا، تونس ومصر والسودان... وهلم، الآن تخاض على أرض، مقر "المثابة العالمية".

سنة تاسعة فبراير، ليست للذكرى بل للتذكير، بأن ما مضى مضى، لكن أيضا لم يمضِ دون أثر، فما يحصد اليوم زرع عقود أربعة، أعظم إنجازاتها الحرب ضد الجغرافيا وضد التاريخ، وبالمحصلة ليبيا، تدفع ثمن مغامرات مغامر، نصب نفسه قائدا أمميا، وقد ورث الليبيون بفضل فبراير ذلكم، وكان لابد مما ليس منه بد.

ومن هذا ليس فبراير، السحر ما انقلب على الساحر، بل المهمة التاريخية، التي لا يُنجزها أي سحر.