Atwasat

بين الجابري والصوفية... التسيس والمؤانسة.

رافد علي الإثنين 17 فبراير 2020, 12:12 مساء
رافد علي

يتخذ المفكر الراحل محمد عابد الجابري في مشروعه الفكري نقد العقل العربي موقفا مضادا من الصوفية كونها ترتكز على عامل العرفان، الذي يعتبره الجابري عاملا دخيلا على الثقافة العربية لتبني عليه الصوفية بنيتها الفكرية وفلسفتها المعرفية «الإبيستمولوجيا»، بما اعتبره الجابري حالة تحول دون الصوفية وأهليتها للنهوض بأعباء اللحاق بركب الحداثة في المجتمعات الإسلامية التي ظلت هاجسا يطمح إليها الجابري ضمن رحلة عطائه كفيلسوف ومفكر. والعرفان، بطريقة مبسطة، هو عنصر الخرافة التي تتضمنها المنظومة الصوفية في بنيتها الفكرية بما يجعلها حالة توظف اللامعقوليات في شرحها لرؤياها للأشياء، أو تصوغها لتبرير منهاجها وتصوراتها.

لم تلقَ أطروحة الجابري الفكرية كل الترحيب من بعض أطياف الفكر والإيديولوجيا بعالمنا العربي، ولم يسلم طرحه من الاتهام والاعتراض على امتداد عمله بمشروعه الفكري الذي دشنه بصدور كتابه «نحن والتراث» في أبريل عام 1980 كطبعة أولى. فقد وقف من الصف الصوفي الدكتور طه عبدالرحمن موقفا مناقضا للجابري منذ عام 1978، وهي السنة التي تكاشف فيها الرجلان علميا على هامش لقاءات وندوات علمية أقيمت بالدار البيضاء كما يشير عبدالنبي الحري في بحثه «طه عبدالرحمن ومحمد عابد الجابري.. صراع المشرعين على أرض الحكمة الرشدية، المنشور عام 2014 على موقع الشبكة العربية للأبحاث والنشر ببيروت.

الدكتور طه استبعد، منذ البداية، منهجية ابن رشد الذي يعتبره الجابري رمزا لمشروعه الذي يتعاطى مع همومنا المعاصرة أيديولوجيا ضمن منظومة التراث الإسلامي، فعبدالرحمن ظل على امتداد السنوات اللاحقة لانطلاق «نحن والتراث» يعتبر الفلسفة الصوفية دعامة كفيلة بأن تبني العقل العربي بشكل أخلاقي مستقل، في حين أن الرشدية، بحسب رأيه، كمنهجية فلسفية انطلاقا من ابن باجه لسنا بحاجة إليها باعتبارها جمع مقتبسات من آخرين. في حين أن الجابري اعتبر المدرسة الفلسفية بالمشرق الإسلامي «المدرسة الشرقية» قد تعلقت بفكر ابن سينا الذي أقام بنيته الفلسفية والفكرية علي النهج الفلكي لبطليموس اليوناني أجل محاولة التوفيق بين الدين والفلسفة، هذا التوفيق الذي لم يكن مسعى للمدرسة الفلسفية المغربية بالأندلس لا فكرا ولا سياسة. فالأندلس لتبني هويتها الفكرية - كدولة - لم تكن مستعدة لتبني التوجه البياني العباسي ولا العرفاني الفاطمي كمنافسين سياسيا، كما يبين الجابري حينما تحدث عن «الزمن الأيديولوجي» للدويلات الإسلامية المتنافسة فيما بينها في كتابه «تكوين العقل العربي» الصادر عام 1984 ببيروت، والذي جعل من الجابري حاضرا بقوة في قضايا الفكر العربي المعاصر.

لم يقتنع طه عبدالرحمن كصوفي بأفكار الجابري، وظلا في حالة نزاع فكري ونقدي صارخ، إلا أنه للأسف انعدمت فيه بينهما حالة مواجهة حوارية مفتوحة بسبب تفضيل الجابري عدم الخوض بالمناقشة كأسلوب اعتمده مع جميع نقاده الذين كان من أبرزهم جورج طرابيشي، الذي يشارك الجابري في التوجه الحداثوي، إﻻ أنهما يختلفان في التفاصيل. لم يقتنع الدكتور طه بإغفاله عدم منطقية الصوفية وذلك لتمسكها بالخرافة، وظل مصرا بذات اللحظة على أن الصوفية بتراثها اﻷخلاقي قادرة على أن تكون بديلا للسياسة في مشروع النهضة، وبالتالي أمسى طه بذلك يتغافل بقصد عن الظرف السياسي الذي أوجد التصوف الإسلامي الشيعي والسني. فالإسماعيلية بعرفانها كانت حالة انفصال ممنهج للشيعة عن التصوف الإسلامي السني - كما عرف ﻻحقا - بكل هرمسيته ولا معقوليته بقصد تحدي المنافس العباسي صاحب النهج البياني، وانهمك الدكتور عبدالرحمن في مشروعه ماضيا يدعو لتأسيس تقول فلسفي حديث للصوفية مبني على أخلاق صوفية بحتة.

بعبارة أكثر تركيزا، يمكن القول إن التضارب بين الجابري وعبدالرحمن يكمن في أن المنهجية بينهما تنصب حول فكرة التسيس للأول والمؤانسة للثاني. فالجابري ظل مشغولا دائما بخلط الفلسفة بالسياسة، إذ إنه كان يناشد بتجاوز واقع التأخر التاريخي من بوابة الهم السياسي، في حين أن طه عبدالرحمن ظل مشغولا بهاجس معرفي يتصل أساسا بتحرر القول الفلسفي العربي من آفتي «التبعية والتقليد» وإنشاء تصور بديل للحداثة. لكن هذا الانشغال المعرفي للدكتور طه عبدالرحمن في اشتغاله بما سماه «منطق الخطاب» قد جعله يظل خارج حركية التاريخ ومفعول السياسة مما عاب نتائج مشروعه الفكري رغم مقدماته المنطقية الصارمة في أطروحته «تجديد المنهج في تقويم التراث» كما يرى الدكتور إدريس جبري في مساهمته البحثية في كتاب «التراث والحداثة في المشروع الفكري لمحمد عابد الجابري» الصادر عن دار التوحيدي سنة 2012 بالمغرب.