Atwasat

التصدي للضربة المزدوجة

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 16 فبراير 2020, 12:44 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

يسدد السجن ضربة مزدوجة في اتجاهين، اتجاه من يتم سجنه، واتجاه أسرته المباشرة. فعلى الصعيد الأول يجري عزل السجين عن أسرته وأقاربه وأصدقائه وبيئته الاجتماعية، والعالم الخارجي إجمالا. وبالنسبة إلى اسرته المباشرة، تحديدا، فبالإضافة إلى الأزمة العاطفية التي تخلقها هذه المحنة، تُلقى على أفراد الأسرة أعباء تتعلق بالحياة المعيشية اليومية كثيرا ما يكونون غير مؤهلين ولا مستعدين لمواجهة متطلباتها.

من جانبه، يحاول السجين، قدر الطاقة، المحافظة على صلة، أو تواصل، مع العالم الخارجي، حتى عن طريق التخيل أحيانا، أو عن طريق "الحدس الذي يحمل طابع السحر أو الروحانية"* ص147.

المفكر الشيوعي الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891- 1937) عاش في السجن من سنة 1926 حتى 1937، توفي بعد إطلاق سراحه بأيام، كتب أهم أعماله الفكرية التي مازالت فاعلة على الساحة الفكرية حتى اليوم في السجن، وتجسد رسائله من السجن نموذجا حيا لما أشرنا إليه أعلاه.

وقد وجه غرامشي رسائله إلى زوجته وولديه وأمه وأخت زوجته وشقيقاته وأخيه، وإلى عدد قليل من الأصدقاء.

في رسالة كتبها إلى أمه بداية اعتقاله يقول**:

"أمي الحبيبة. فكرت فيك كثيرا هذه الأيام. فكرت في الحزن الجديد الذي سببته لك، وأنت في مثل هذا العمر وبعد كل الأحزان التي عشتِها. يجب أن تكوني قوية مثلي، رغم كل شيء، فلتسامحيني بحنان حبك الهائل وطيبتك. عندما سأدرك قوتك وجلدك في الأوجاع ستصبح لديَّ ذريعة لقوة زائدة. فكري في هذا... أنا هادىء ومستيقظ، كنت قد أعددت نفسي ذهنيا، وبشكل جيد. سأحاول أن أتخطى الصعاب التي تنتظرني جسديا أيضا، لأحافظ على توازني. أنت تعرفين مزاجي وبداخلي دائما شيء من الفكاهة والمرح، وهذا سيساعدني على العيش"** ص23.

فالسجين المناضل (وحتى سجين الحق العام) يرفد مقاومته وعزيمته بما يثبته ذووه من صلابة وقوة مواجهة في وجه هذه التجربة الصعبة. وبالمقابل، يحاول السجين دوما التأكيد لذويه على أنه مستمر في الصمود وأن عزيمته أبعد ما تكون عن الخور. يقول غرامشي مخاطبا أمه: "الأمر يحتاج الصبر والصبر وأملك الأطنان منه، بحجم السيارات والمنازل جميعها (هل تتذكرين ما كان يقوله كارلو الصغير عندما كان يتناول كعكة لذيذة: أريد منها مائة منزل) بالنسبة لي أملك مائة منزل وأكثر"** ص25.

ويبدو أن المكابدة المعنوية التي تنتاب السجين تتضاعف إذا كان ترك أطفالا صغارا، أو ولد له طفل بعيد سجنه. يخاطب غرامشي أمه:

"لم أخبرك بعد بازدياد وزن مولودي الجديد: يدعى جوليانو، كتبوا لي أنه بصحة جيدة وينمو جيدا. أما ديليو فقد أصيب بالحمى القرمزية في الأسابيع الأخيرة، صحيح أنه في وضع مقبول، لكنني الآن لا أعلم وضعه الصحي تماما، أعرف أنه تخطى المرحلة الحرجة وفي طريقه للشفاء"** ص23.

لقد كان شأن طفليه الصغيرين أكثر ما يقلقه. في إحدى رسائله إلى جوليا زوجته يطلب منها أن تسأل، نيابة عنه، ابنهما دليو "أي قصص بوشكين هي الأحب إليه". ويضيف: "أنا في الحقيقة لا أعرف إلا اثنتين منها ‘‘الديك الذهبي‘‘ و‘‘صياد السمك‘‘". * ص52. وفي رسالة أخرى يخاطبها: "من أكثر الأشياء التي أثارت اهتمامي في رسالتك خبر انشغال دليو وجوليانو بتصيد الضفادع.

أود أن أعلم إذا ما كان الأمر متعلقا بالضفادع الصالحة للأكل أم لا، ما قد يضفي على جهدهما كصيادين ميزة عملية ونفعية لا يستخف بها"* ص58.

في رسالة أخرى يخاطب ابنه دليو قائلا: "لقد أعجبتني زاويتك الصغيرة المخصصة لتربية الصُّغْنُجات والأسماك الصغيرة. إذا فرت عصافير الصغنج من أقفاصها ينبغي ألا نمسكها من أجنحتها أوسيقانها، فهذه الأعضاء رهيفة جدا ويمكن أن تنكسر أو تنخلع؛ يتحتم إمساك جميع أجزاء الجسم ملء قبضة واحدة دون الضغط عليها"* ص60.

وفي رسالة أخرى يقول: "عزيزي دليو، علمت أنك ترتاد المدرسة، وأنك بطول متر وثمانية سنتيمترات وتزن ثمانية عشر كيلوغراما. وهكذا أفكر بأنك صرت كبيرا جدا، وبأنه خلال فترة قصيرة سيكون في مقدورك أن تكتب إلي الرسائل بمفردك... وبما أنك كبير إلى هذا الحد، وكما أخبروني، ثرثار قليلا، فإنني على يقين من أنك ستكتب إلي، بيد والدتك في الوقت الحاضر، رسالة طويلة، مع كل هذه الأخبار [التي طلبها منه] وأخبار أخرى بعد. ولسوف أكتب لك أخبارا عن وردة زرعتها وعن وزغة أريد أن أربيها"* ص66 .

وفي رسالة إلى ابنه جوليانو يقول: "... لا يروقني أن أرى فتى مثلك يتشكى، في حين أنك في الصورة الفوتوغرافية تبدو ثابت العزيمة، عاقد النية على بلوغ غايتك؛ على هذه الشاكلة أحب كثيرا أن أراك"* ص71.

ولنختم بهذه الفقرة من رسالة إلى زوجته:

"... أود لو أراك مع الطفلين في صورة جماعية واحدة، كما في العام الفائت، ذلك أنه في الصورة الجماعية ثم شيء من الحركة، من الدراماتيكية، ثم علاقات يمكن أن تستمر ردحا من الزمن، علاقات متخيلة في مشاهد لطيفة، في مشاهد حياتية واقعية... من جهة أخرى أعتقد أنني عرفتك بما يكفي لكي أتخيل مشاهد أخرى، غير أنني عاجز بعض الشيء عن تخيل أفعال وردود أفعال الطفلين في علاقتهما معك.

وعليه، فأنا أشعر بالحسد لأنني محروم من الالتذاذ بالطراوة الأولى لتلك الانطباعات عن حياة الطفلين ومن مساعدتك في إرشادهما وتثقيفهما"* ص120.

* أنطونيو غرامشي. شجرة القنفذ والرسائل الجديدة. ترجمها عن الإيطالية وقدم لها، أمارجي. التكوين. دمشق- سوريا 2016
** رسائل السجن: رسائل أنطونيو غرامشي إلى أمه (1926- 1937). الجزء الأول. ترجمة: سعيد بو كرامي. طوى للثقافة والنشر والإعلام- لندن 2014.