Atwasat

21- الطفرة الثالثة

محمد عقيلة العمامي الإثنين 10 فبراير 2020, 12:59 مساء
محمد عقيلة العمامي

ولعله أواخر أغسطس سافر عبد المجيد الدرسي رفقة محمد إبراهيم السوسي إلى بيروت. وليلة 31 أغسطس 1969 أقفلتُ، من بعد منتصف الليل، محل الخضروات والمواد الغذائية الذي افتتحته يوم 9 من الشهر نفسه، وأمسى في الليالي الصيفية كناد يجمعنا، ركنه عند ناصية شارع نبوس مع عمرو بن العاص، نتجمع نحن رفاق قهوة سي عقيلة، وأيضا رفاقنا من طلبة الجامعة الوافدين من مختلف أنحاء ليبيا، خصوصا، جماعة النادي الدولي، وهو يضم مجموعة رفاق من طرابلس منهم: فوزي العلاقي، والتهامي شعبان، وفيصل الزقلعي، عبدالمجيد خشخوشة، والهادي السويح، وكان إبرهيم نبوس صديقهم ويتردد عليهم. وكان أيضا طالب من طلبة كلية الاقتصاد اسمه (زعول). تلك الليلة كنا نتسامر، كالعادة، أنا وأصدقائي محمد خليفة الترهوني، ومحمد ومحمود شمام، ومحمد محمود زيو وعوض شمسة.

صحوت صباح يوم 1سبتمبر1969 لأجد دبابة أمام بيتنا، في مدخل شارع نبوس، وفوقها صاحبنا جندي، وكان يقطن في بيت عزاب في شارع شمسة، ويتردد على مقهانا، ولقد أسماه محمد الترهوني: (جوني) لأنه متأثر بالأفلام الحربية، يتباهى بقيافته، وببندقيته وخوذته الحديدية. قال لي :

" ثورة يا بوعقيلة! ممنوع التجول.. خليك قدام حوشكم!" ثم استطرد وقال بلهجة العارف: "عارفه يديرها!! عبد السلام عزالدين". كان مثلنا معجبا بشخصية الضابط والملاكم عبدالسلام عزالدين المدني، وظل مقتنعا لأيام أنه من قاد الثورة!

وظللنا لأيام نجتمع عند ناصية شارع نبوس، لثلاثة أيام، كل يوم يقترح أحدنا اسم ضابط يؤكد أنه قائد الثورة! إلى جاءنا صديقنا "زعول" الذي اختفى لأيام من بعد قيام الثورة، ليؤكد لنا أن قائد الثورة هو "معمر بومنيار القذافي". أغلبنا لم يسمع بأن أحدا يسمى "معمر" فما بالك بــ (بومنيار).

يوم 3 سبتمبر رفع حظر التجول، وأقفلتُ الدكان منتصف النهار، واختفت المعلبات كلها، لم تبق سوى علب الخميرة، أما الباقي أصبح نقودا بلغت 370 جنيها، يعني عاد لي رأسمال الدكان، وفوقه سبعون جنيها؛ الرأسمال كنت استلفته من ولد شارعنا سالم خليف!.

اليوم الرابع انطلقت المظاهرات تجوب الشوارع، التي لم يغب عنها أحد حتى الذين أصبحوا بعد سنوات من عتاة المعارضين كانوا يركضون ويهتفون ليبيا جمهورية وتسقط الملكية.

وبدأت الطفرة الثالثة..
هذه الطفرة هي التي خلطت الأوراق كافة؛ في عصرها تحركت رياح ما كنا نتوقع أنها ستعصف بنا من بعد أربعين عاما. طفرة استقبلها معظم الناس بوله وفرح، واستمرت طوال أربع سنوات كنسيم هادئ وعليل، ولكن بعد ذلك تحولت رياحا تعصف أحيانا وتهدأ أحيانا أخرى! أحيانا تهب حارة من الصحراء، وأحيانا باردة من الشمال، أما الشرقية والغربية فتتناوب في اليوم الواحد، وغالبا من دون إنذار.

يخطئ - في تقديري- من يقول أن الحال استمر على وتيرة واحدة، ويخطئ من يقول أن الحال سيء، ويخطيء أيضا من يقول جيد.

الطفرة تأتيك "بكل شيء شوي!" رياحها أحيانا ناعمة وغالبا عنيفة. طفرة ركب صهوتها زعيم لم يتفق أحد على تصنيفه، منهم من يرى أنه عروبي مخلص، ومنهم من يرى أنه مسلم، ومنهم من يرى أنه كافر. زعيم قالوا أنه عنيف لا ينسى ولا يغفر، فيما قال آخرون غير ذلك، وقالوا أنه حالم لدرجة السخرية، زعيم نخطئ إن قلنا أنه بلا قضية. ولكن يصعب كثيرا أن تُفهم قضيته. لقد استطاع أن يحكم قبضته طوال أربعة عقود، وعندما حان وقت رحيله، رحل بسبب خطأ بسيط، جعل شعبه يستغرب كيف أوقعه وهو الذي رأيناه قادرا على الإفلات من فخاخ متقنة وحصار دام سنوات.

يصعب علىّ أن أتناول حقبة ثورة سبتمبر، لأنني ظللت بطولها كمتفرج، لم أجد ما يقنعني أن أكون من جنودها المخلصين، ولا من رافضيها الشجعان، وإنما حافظت أن أكون قويا كأرنب: "لا أحب أن آكل أحدا، ولا أن يأكلني أحد". قناعتي بحالي هي التي سيرتني طوال سنواتها. ولقد تعمدت أن أحكي بتفصيل ولو بسيط لسنوات عمري قبل قيامها، لأن الكثيرين من جيلي ما زالوا يذكرونها، ولكن تفاصيل ما بعد سبتمبر تخص معاصريها، بل تخص كثيرين ولدوا بعدها ولذلك يصعب البوح بها لأنها لم تعد ملكي وحدي، شركائي فيها لا يريدون إثارتها، فلكل الناس تفاصيل لا يرغبون في البوح بها

ولذلك لن أتناولها بسرد مباشر، فالجيل الذي يفهمها، إما أنه رحل أو أنه لم يعد قادر لا على القراءة ، ولا على الفهم! أما القادرون هم من كانوا في عهده فاعلين، أو عاجزين؛ قد يكونون تأذوا، أو أنهم آذوا؟ قد يكونون استفادوا أو يكونون قد خسروا؟. غير أنه هناك قلة ظلت تتفرج، تراقب، ترصد.. وتحتفظ برأيها، وأيضا، برأسها.

ولأن التفرج، والترقب، والترصد، والهفوات، والألم، والسعادة، والخيبة، والفقد، والحزن.. هي ما يتشكل منها الضمير، وهو ما لا يستطيع المرء كبته من دون أن يصاب بالهذيان، لذلك ابتكر الإنسان الرواية، ولهذا الرواة لا يهذون! فلنكتب، إذن، رواية حتى لا نصاب بالهذيان!.