Atwasat

الدكتور بك.. الطبيب الأول

سالم الكبتي الأربعاء 05 فبراير 2020, 02:21 مساء
سالم الكبتي


كما يحب أن يناديه ويسميه صديقه شاعر الوطن أحمد رفيق.

كان أول طبيب ليبي متخصص في مدينة بنغازي. الدكتور محمد حسن الفيتوري ابن حي الظهرة بطرابلس والمولود به أواخر العقد الثامن من القرن التاسع عشر. النخيل والسواني، ملاعب الصبا، مقطع الحجر وسيدي بوكر، وعديد المعالم، وثمة من يشير إلى أن ولادته ونشأته في البداية كانت في زليتن.

أرسل من طرابلس مع مجموعة مختارة من الطلبة إلى إسطنبول للدراسة. وهناك على ضفاف البسفور تخرج في الكلية العسكرية في الطب ومعالجة الأمراض. كان من بين دفعة كبيرة شملت الكثير من أبناء الإمبراطورية المترامية الأطراف.. قبل أن تمرض!!

عقب التخرج عين أوائل القرن العشرين للعمل طبيبا في بنغازي. استقر بها حتى وفاته وتزوج من إحدى بنات أسرها المعروفة. كان يتبع الجيش التركي تلك الأيام في قصر البركة وأسهم في الجهد الميداني الطبي خلال المعارك الأولى التي وقعت دفاعا عن بنغازي وما حولها منذ وصول القوات الإيطالية إلى شواطئها في جليانة في 19 أكتوبر 1911.

الفيتوري طبيب إنسان عرف بثقافته واتسم بذكاء واضح إضافة إلى مهارته الواضحة للعيان في مهنته النادرة أيامها. وعندما اُحتلت بنغازي بالكامل من الطليان لم ينسحب مثل البعض مع الجيش التركي لكنه وهو المواطن الليبي الأصيل الذي يفيض حبا لوطنه ومواطنيه بقي يعالج المرضى ويخفف من آلامهم ومعاناتهم مع الأمراض والأوبئة، ومواصلا بكل وطنية لا تعلن عن نفسها واجبه الإنساني والطبي الرفيع وسط الحرب وأيام الفقر والمجاعة المتلازمة، مع انتشار المرض بأنواعه وتفشي الأمية والتخلف. كانت أسلحة فتاكة أيضا مثل الاحتلال.

في وجود الأطباء الإيطاليين في بنغازي الصغيرة برز الفيتوري وسطهم بكل قوة. فتح عيادة خاصة به إلى جانب عمله الرسمي في المستشفى الوحيد بالمدينة الواقع عند سور مدخلها الشرقي. استقبل مرضاه بكل ترحاب ومودة ولم يفرق بين أحد منهم في تفاصيل العلاج والكشوفات الضرورية ووصف الدواء ومراجعة الحالات. كثير ممن عاصره تلك الأعوام روى بأنه كان يقوم بالزيارات والمتابعة الشخصية للبيوت في المناطق الشعبية الفقيرة حاملا حقيبته ليظل قريبا من معاناة المواطنين وأمراضهم وعلاجهم دون تردد. كان طبيبا إنسانا بالدرجة الأولى وفي كل الأحوال.

وفي مستشفى بنغازي كان كبير الأطباء إيطاليا بدرجة أستاذ يحترم آراء الطبيب الليبي الفيتوري، ابن البلد، ويستفيد من نقاشاته العلمية والطبية معه، ويقدر بكل ثقة تقاريره ووصفاته التي تطابق مقتضى الحال.

صداقات وطيدة جمعت الطبيب الإنسان مع سكان المدينة. لازم مثقفيها وحضر مجالسهم واستهواه الأدب والشعر. أحمد رفيق الشاعر الكبير ذكره في مقالته الشهيرة (القطوس). كانت تحمل روح القصة بأنفاس الشاعر والقصيدة نشرها على قسمين في العددين التاسع والعاشر من مجلة ليبيا المصورة الصادرة في بنغازي. أغسطس - سبتمبر 1938، كان الشاعر يراجع صديقه الطبيب إثر آلام شديدة أحس بها نتيجة عضة من (قطوس). انتشرت الأخبار بين الأصدقاء في المدينة وخلقت جوا من الدعابة وظلت موضوع تندر، ولم يشأ الشاعر أن يبوح بالسبب الرئيس لتلك الآلام. وحين عرفوا ما ظل مخفيا عنهم بادر أحدهم بنظم بيت بالعامية تخليدا للحادثة: (السيد عضاته قطوس .. قعد محبوس .. تريح طول الليل يحوس). قصة طويلة وجميلة وطريفة جمعت بين شاعر وطبيب عرفا بوطنيتهما وظرفهما أيضا، ومع رفاقهما في المدينة متجاوزين بالدعابة مرارة لحظات قاسية تقهر البشر والحجر في ظل سواد الاحتلال الذي يلف المدينة والوطن.

الفيتوري وصف بأنه أكثر من طبيب، لكنه في كل الظروف ظل إنسانا قريبا من الناس دون أية فروقات تذكر. العام 1941، وقت الحرب، بنغازي الظلام والقصف والغارات بين المحور والحلفاء رحل بهدوء. فيما شرع أهالي بنغازي الذين لم ينسوا طبيبهم الإنسان في اللجوء من ذلك القصف المهول إلى الضواحي والمناطق الريفية المجاورة.