Atwasat

نبضات متقاطعة - 20 على أعتاب الطفرة الثالثة

محمد عقيلة العمامي الإثنين 03 فبراير 2020, 12:29 مساء
محمد عقيلة العمامي

سبع سنوات بين الطفرة الأولى سنة 1962 والطفرة الثانية، سنة 1969. وعامان ما بين نكسة 67 وثورة سبتمبر. سنة 1967 كان عمري حوالي 25 سنة. في الجزء الأول من هذه السيرة – قهوة سي عقيلة - تحدثت عن المكان وشركائي فيه، وأبرزت القليل مما عايشته من قبل وبعد ثورة سبتمبر 69، غير أنني لم أتناول بالتفصل تأثير الطفرة الأولى على مجتمع بنغازي، وأيضا سلوكياته، وهذا ما سوف أوجزه في هذه الحلقة.

سنة 1966 كنت وأقرب أصدقائي عبد المجيد الدرسي، في السنة النهائية من المرحلة الثانوية، كُنت حينها موظفا بوزارة الأشغال، وأعمل طباعا في شركة السيل الليبية، وكان عبد المجيد، موظفا بشركة التويوتا، وأيضا متعاونا كمسوق مع شركة تأمين، حينها لم تكن شركات التأمين قد تأممت. كنا نجاهد في الخروج من دائرة الفقر، وكانت أسرتانا فقيرتين، ولكننا مقرورون ومستورون. ولكن تطلعاتنا، وما عرفناه في تلك السنة كاد أن يتسبب في توقفنا عن مواصلة الدراسة، ولكننا كنا على يقين أن الوصول إلى العالم المضيء، مثلما كنا نعتقد، هو اجتياز مرحلتي الشهادة الثانوية ثم الجامعة.

والواقع أن ما توافقنا عليه كان هو السبيل لمعظم جيلنا، الذين كان حالهم كحالنا؛ منهم على سبيل المثال، الأساتذة محمد على الشويهدي، إبراهيم الربع، أحمد المعداني، جمعة الفلاح، بركة الفسي، مفتاح المطردي، مفتاح الهلالي، والمبروك العقوري. كان السبيل، إذن، هو طريق التعليم الذي اهتمت به الدولة في ذلك الوقت، بل ومنحت من يصل إلى الجامعة التسهيلات كافة ليواصل دراسته.

وضع عبد المجيد نصب عينيه التخرج بتفوق ليكون معيدا في قسم اللغة الإنجليزية، ومن ثم الدراسة ببريطانيا. ولم أكن بعيدا عن تطلعات عبد المجيد ولكن من دون فرصة في الدراسة في الخارج، ولقد وضحت أسبابي في الجزء السابق من هذه السيرة، وهو حمل العائلة الكبيرة التي كنت عائلها الرئيسي.
انطلقنا فعلا، بهمة وإصرار بنجاح السنتين الأوليين، ولكن الكبوة كادت أن تقضي على أحلامنا في سنة الشهادة الثانوية، فلقد عاد عبدالله السوسي، صديق عبد المجيد، من دراسته في بريطانيا. كان يحمل جرابا ممتلئا بحكايات عن عالم كنا نراه في الأفلام الغربية، ثم رأيناه معا من خلال سفريات قمنا بها فيما بعد. عبدالله كان من أسرة ثرية جدا، وبمجرد عودته تولى بعضا من أعمال عائلته، ناهيك عن أن عبدالمجيد تولى وظيفة في شركة من شركات أسرته.

خلال سنتي 66 و1967 عرفنا الطريق نحو مغريات حياتية في عالم لا علاقة له بما كنا نعرفه في قهوة سي عقيلة. وتعرفنا أيضا على رجال أعمال شرفاء كانوا يقارعون الشركات الأجنبية وينفذون مشاريع كبيرة، أذكر منهم مصطفى عمر الكرامي ويوسف الشيباني، ومحمد وإبراهيم نبوس، ذلك بالإضافة إلى عائلة السوسي كلها، فمن خلال عبد المجيد تعرفتُ على عبد الله ومن خلاله على بقية العائلة، وخصوصا محمد إبراهيم، الذي قارع وباقتدار شركات أجنبيه عديدة، ومازالت علاقتنا بهم متصلة حتى الآن.

وكانت الدولة في ذلك الوقت تمكنهم من الأعمال التي تتناسب وإمكانياتهم، وتحميهم من تغول الشركات الكبيرة خصوصا الأجنبية. وكانت المشاريع الكبيرة تنفذها شركات عالمية ولكن من خلال وكيل ليبي. كانت البلاد تسير وفق خطط مدروسة، يقودها رجال دولة كان همهم قيام الدولة الليبية. صحيح أنه كانت هناك بعض الهفوات قد تحسب فسادا ولكنها لا تقاس بما عايشناه فيما بعد.

في تلك الفترة بدأت تتبرعم أخلاقيات لم نعتدها، تزامنت مع قدوم رجال أعمال، وصناع مهرة، وتجار من الشام ومن لبنان وبدأت تنتشر سهرات لم يعتدها الليبيون من قبل، لعل أسوأها القمار، فكانت له سهراته وبالطبع أجواؤه، فلقد سبق المصريون وكذلك التوانسه، اللبنانيون والسوريون ولكن ما جاءوا به لم نعتده من المصريين. صحيح أن القمار كان معروفا في بنغازي منذ الخمسينيات، فجيلنا يذكر كيف يقامر البسطاء على أوراق اللعب بأقواس الفندق البلدي، أو لعب الورق في المقاهي عن المشروبات، أو تطوره في سهرات شبابية في ليال رمضانية، ولكن ما طرأ في سنوات العهد الملكي الأخيرة ثم من بعد سبتمبر كان خطيرا للغاية.

وبدأ التحرر، أعنى تحرر الأنثى، كثيرات تحررن، ولكن ظلت الحشمة وحسن السلوك ملزما لهن، وأخريات فهمن أن التبرج تحرر، ولكن العفة والحشمة سلعة ثمينة استطاع المجتمع المحافظة عليها، ولم تتصدع إلاّ من بعد الطفرة الثالثة.

سنة 1967 وصلنا الجامعة، وبدأناها بشخصيتين متناقضتين، شابان مجتهدان يعملان ويدرسان غير أن حياتهما الخاصة لا علاقة لها لا بالجامعة ولا بأخلاقياتها، حياة تعلمنا فيها أمورا لا تدرس وإنما تعايش والمعايشة هي شكل من أشكال التعلم، فبقدر ما كانت مناهج الجامعة تتطور، بقدر ما كانت الحياة في بنغازي تتطور، ولعل هذا ما منحنا القدرة على رؤية مدينتنا من جوانبها كافة، اختلطنا بالطلبة الجامعيين المثاليين، وبالرافضين من شباب المدينة، والمغامرين والتجار، والسماسرة، ونماذج كثيرة جعلت من بنغازي مدينة لا علاقة لها بمدينة الأربعينيات والخمسينيات ومطلع الستينيات.

السنتان اللتان سبقتا ثورة سبتمبر كثر المتعلمون والمثقفون، والمدعون والمغامرون، من الليبيين ومن الوافدين من كل مكان، واستمر تحصيلنا من الجامعة والشارع والليل.

واستمرت الحياة بوتيرة رخاء، والتقينا كثيرين مأخوذين بشعارات سياسية متنوعة، هذا شيوعي وذاك قومي، وذاك إخواني، ولم يكن يعنينا أبداً ما يقولونه، أو ما يحاولون إقناعنا به. كنا مأخوذين بالحياة التي نريدها والتي كانت في متناولنا ندرس ونكسب وننفق، ومدن المتوسط تستقبلنا بجواز سفر لا يحتاج إلى تأشيرة أبدا.

في الحلقة القادمة: ابتدأ يومنا بحضر التجول!