Atwasat

الحرب بلا عدو

نورالدين خليفة النمر الأحد 02 فبراير 2020, 11:53 صباحا
نورالدين خليفة النمر

مايميزني عن القلة الليبية النادرة ممن يلتمسون كتابة مقالاتهم من الكتب الأدبية التي قرأوها، فيدعونها آراء بل تحليلات سياسية في القضية الليبية الراهنة، هو أنني أكتب ويعينني وعي الخبرة بالخطر حيث أتاحت لي أقدار عمري أن أعاين الشرور الليبية التي نعيش اليوم نتائجها من بدئها إلى نهايتها. انقلاب العسكر على الدولة المدنية سبتمبر 1969 ، ومُسمى الثورة الشعبية الثفافية التي قضت على الثقافة وملامح التحضّر بوجدان المدينة وشرعنة أريفتها، بل بدونتها، بروح الكراهية المتشفيّة في أبريل 1973، كما أشرعت أبواب السجون والمعتقلات لأصحاب الرأي والموقف المستقل، إضافة إلى حدث 7 أبريل الذي عايشت قمعه 3 سنوات في جامعة بنغازي وتابعت امتدادته 7سنوات في جامعة طرابلس، والذي قضى على الحركة الطلابية وألغى فعاليتها نهائياً، من حساب الوطنية الليبية. كما أني تضرّرت عائلياً وشخصياً مكابداً بدء وإنهاء ماسمّي بالتطبيقات الاشتراكية التي جوّعت الليبين وقضت على الملكية وأنشطة الاقتصاد الوطني الليبي، كما انخرطت في برمجيات العسكرة بالتدرّب على السلاح طالباً وفي عسكرة المدن وتجييشها موظفاً لكي لاينقطع مرتبي مصدر رزق عائلتي، كما تابعت إعلامياً مسؤولاً بدء حرب تشاد الأولى والثانية والتي كان هدفها الأساسي القضاء النهائي على الجيش الوطني الليبي إلى اليوم، لأغراض تتعلق باستدامة حكم رأس الدولة وعائلته. وتضرّرت بحكم وظائفي في الإعلام من الزحوف الشعبية الفوضوية والفوضى باسم جمهرة المواقع كما عايشت ظروف بدء النقل الانتقامي للعاصمة من طرابلس إلى سرت عام 1987بسبب التواطؤ المفترض من مدينة طرابلس مع العملية الانتحارية المعروفة بمعركة باب العزيزية 1984 ولامبالاتها إزاء الغارة التي نفذتها الطائرات الأمريكية لمدة خمس دقائق على ثكنة باب العزيزية. وأوفدتُ إلى ألمانيا مبتعثاً للاختصاص في الفلسفة، فتعيدني البيروقراطية الألمانية وإجراءاتها المخصوصة بالليبيين بعد أشهر في يونيو 1992 لآعاني معهم سنة بداية الحصار وشظفه الذي ضربه المجتمع الدولي على ليبيا بسبب ماسمي بقضية لوكربي. وعاصرت بدء انتفاضات الربيع العربي فوصلت إلى طرابلس قادما من ألمانيا 14 يناير 2011 يوم فرّ الدكتاتور التونسي، وأتيح لي أن أكون في الخيمة بمعسكر باب العزيزية شاهداً على آخر لقاء لملك الملوك بملوك وعُمد قبائل أفريقيا، مع أفارقة من ذوي جنسيات البلدان الغربية. وغادرت طرابلس السبت بعد جمعة الغضب التي أزاحت الدكتاتور المصري. ويوم 14 يناير 2012 عبرت بسيارتي الحدود التونسية وكنت في المساء نائماً في ليل طرابلس الذي غادره للتو كابوس دكتاتور ليبيا .

حكى في محاضرة له العلامتي والكاتب الإيطالي الشهير إمبيرتو إيكو، عن سائق تاكسي أميركي ـ باكستاني من نيويورك سأله إن كان للإيطاليين كالباكستانيين أعداء؟ بمعنى الأعداء التاريخيين الذي يقفون ضدهم، ويقاتلونهم على مرّ العصور سواء للمطالبة بأرضٍ تاريخية، أم لصراع عرقي، أو لمشكل ترسيم حدود أو إلخ من أسباب العداء القومي. وعندما أجابه بأن الإيطاليين ليسوا في حربٍ مع أحد! فلم يرضَ سائق التاكسي عن إجابته. فكيف لا يوجد لبلدٍ ما عدو؟!

تقريبا هذا كان حال ليبيا التي حكمتها الدولة الملكية المسالمة، بعد استعمار إيطاليا لها 30 سنة ونيّف .والتي كانت بسبب ريع النفط الذي يتم تدبيره بعدالة حريصة تضع خطواتها الثابتة في طريق التقدّم والازدهار. فيكون الحكم على كل تلك الأحداث المفصلية التي ألمحت إليها سالفاً، بأنها أحداث اصطنعتها السياسة الدكتاتورية وتلاعبت بالمجتمع، لتفتعله حقل تجارب لتبرير ديماغوجيتها وشرعنة أتوقراطيتها ذات المنازع الغامضة وترويجها للمجتمع الدولي كأيديولجيا وعرض لنظرية عالمية ثالثة. إلا أن المجتمع المجتمع الليبي تفاعل مع الدكتاتورية بغموضه التاريخي، الذي بدأت معطياته تعبر عن نفسها بحرية بعد إعلان التحرير من الدكتاتور ونظامه، وليس التحرير من مجتمعه الذي ابتناه، بتدمير الأساسات التي يقوم عليها مجتمع من المجتمعات. إذ فُرّغت الدولة من مضمونها بداية سنوات السبيعينات من القرن الـ 20. فاستبعدت السياسة ومؤسساتها وطغت تعميمية وصفة الجماهير على المجتمعيات المنفصلة المدينية والحضرية الريفية والبقايا من شبه البدوية. وتعمّم لفظ المنتجون بداية سنوات الثمانينات، ليضبب المهنية وعلاقات العمل وارتباطها بالطبقات أو بالأحرى تنظم شرائح المجتمع في مهن وحرف. وهيمنت الريعية المعتمدة كلياً على تصدير النفط ليعتمدها النظام وسيلته في الابتزاز الزبوني لجماعات الولاء، وتتوزع المهنة الأمنية في شُعب الأمن المحلي بديل مراكز الشرطة الضبطية. كما تكرّس مفهوم الشعب المُسلح لعسكرة كل الشعب، لتختفي مهنة الجيش والمهمة الدفاعية المخصوصة بجنود وضباط مهنيين إلى مهمة مناوبة شعبية. وعلى هذه الفرضيات التي توهمها استنام النظام الدكتاتوري الذي اصطنع جماهيريته على مقاس أوتوقراطية زعيمه وأوهام تطرّفاته إلى يقينين: انتفاء أية بادرة لمحاولة انقلاب عسكري عليه، واستبعاد حتى مسألة قتله التي افترضها في حديث صحفي بعيد محاولة اغتياله في بلدة براك بشاطئ فزان 1996. وأنه لايهدده عدو خارجي من الأعداء الذين توهمّهم طوال حكمه الذي استطال إلى أزيد من أربعة عقود من الزمن. هذا اليقين كان الفرصة الحاسمة لليبيين الذين ثاروا عليه وعلى نظامه الفوضوي، فسألهم مستنكرهم من أنتم؟

!ستطرد إيكو متجاوزاً الفردانية، في تفسير مجتمعية اصطناع العدو في إيطاليا الديمقراطية التي تتبادل منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية على حكوماتها أحزاب سياسية وليس ديكتاتوريين، بأن وجود عدوٍ ليس مهماً من أجل تعريف هوية المجتمع فقط، بل لوضع عوائق يتم من خلالها تحليل منظومة قيمه والتغلّب عليها، وكذلك استعراض هذه القيم، لذا في حال غياب العدو يجب علي أعضاء المجتمع أن يوجدوه، وجديرٌ بالذكر أن عملية ابتكار العدو هذه مرنةٌ بشكل لايُضاهى، ففي أقصى التطرّفات المجتمعية يكفي أن يُلصق وصف العدو بجماعة ما أو فئة ما أوشخص ما بأن يقولوا بأنهم لاينتمون لهذا المجتمع، أو حتى لايجاروه في عداوته لمن يفترضهم آخرين .

وحتى يكون مقالنا مطبقاً على ماتعيشه ليبيا أو بالأحرى إقليم طرابلس منها. فإن المتابع الحصيف لايخامره الشك بأن المنطقة الفاعلة بقوة في الهجومين على العاصمة طرابلس التي توجد بها حكومة الوفاق المعترف بها دولياً والبعثة الأممية، ونعني هجوم سبتمبر 2018 ، الذي اتهم به مبعوث الأمم المتحدة ميليشتي الكانيات ومسمى الجيش السابع ـ ترهونة. وهجوم أبريل 2019 بمسمى قيادة الجيش الليبي في الرجمة شرق بنغازي المستمر إلى اليوم بخروقات وقف إطلاق النار، والذي ثبت فيه ضلوع ميليشيتي ترهونة المذكورتين بفعالية لاينطفيء أوارها. غير أننا مجاراة لأمبيرتو إيكو الذي يرجع له الفضل في تفسير الآليات المجتمعية لاصطناع الأعداء لانهتم كثيراً بالظاهرة التي تكاد تكون طبيعية في تعريف العدو، إنما في العملية التي ينفرد بها كل مجتمع على حِدة. والتي يتم من خلالها ابتكار هذا العدو وشيطنته. هذا الواقع المشين عبرّت عنه سيّدة من عوام ترهونة في مقطع فيديو متداول في منصات التواصل الاجتماعي، حيث تجاوزت كرهها للطرابلسية الذين اصطنعتهم أعداءً لترهونة، بل تمادت بأن شملت بالتوبيخ، بل تجاوزته بوصفهم بالخونة، أعداداً غفيرة من العوائل الترهونية التي استوطن بعضها طرابلس منذ حقب زمنية طويلة وتقف على الحياد إزاء الحرب على طرابلس. إن هذا العمى العدواني يتجاوز التوبيخ والوصف بالخيانة أي الأقوال، إلى أفعال الحرب التي تقصف بقذائف المدفعية من بُعد أحياءً يسكنها بالكامل التراهنة كما حدث مؤخراً لحي الهضبة البدري بسبب أن الحي المنكوب يقع في الطريق إلى وسط العاصمة مثله مثل أحياء صلاح الدين وعين زارة المكتظة بالتراهنة للوضول بالدمار إلى قلب طرابلس، حيث يختفي عناصر الميليشيات التي تطاردها ميليشيات ليبية مختلطة من الغرب والشرق مهاجمة وغريمة.