Atwasat

اختبار فوفو

جمعة بوكليب الخميس 30 يناير 2020, 12:52 مساء
جمعة بوكليب

قد لا يصدق كثيرون من أصدقائي ومعارفي أنني، خلال السنوات الأخيرة، صرت شديد الحرص على قراءة صفحات النعي والرثاء في الصحف البريطانية لمختلف الشخصيات البريطانية والعالمية، في مختلف التخصصات والقطاعات.

هذا الحرص قد يرجعه البعض إلى عامل التقدم في العمر، وبالتالي، إحساسي بقرب دنو أجلي، وخروجي من هذا العالم بالبطاقة الحمراء. وربما يكون ذلك صحيحاً. فالانسان وهو كبير في السن غيره وهو شاب. لكن الأمر لا يتوقف عند ذلك الحد، بل، وأجزم، يتجاوزه إلى أمور أخرى لاعلاقة لها بالعمر. حيث اكتشفت أنه من خلال اطلاعي وقراءاتي لتلك الصفحات المنشورة، حول شخصيات مهمة، تتزايد جرعات إشباع فضولي المعرفي. وأن تلك المتابعة تغنيني عن قراءة العديد من كتب السير الحياتية لأؤلئك الناس. وعلى سبيل المثال، كيف لي، مثلاً، أن أعرف أن هناك شخصاً، توفي مؤخراً، اسمه إدوارد كيلي، كان أهم سلطة مرجعية في اللغة اللاتينية في العالم الأكاديمي عموماً، وعن الشاعر الروماني أوفيد خصوصاً.

التطرق إلى لغة قديمة، كاللاتينية، يذكرنا بعلاقة السيد بوريس جونسون بها. فالمشهور عن رئيس الوزراء البريطاني الحالي بوريس جونسون إجادته للغة اللاتينية، وشغفه بها. أضف إلى ذلك تبجحه، أحياناً، بذلك بشكل استعراضي. كأن يلقي، عمداً، بتعبير، أو بمصطلح في تصريح، أو في خطاب، لكي يبهر الناس، أمثالي، ممن لا علم لهم بتلك اللغة، ويشعرهم بجهلهم بلغة أساطين البلاغة قديماً، ويشغلهم بالسعي للبحث عن عما قاله وأنتواه من معنى.

وأن يحب المرء لغة ما ويجيدها، فتلك ميزة ليس في ميسور كثيرين الاستمتاع بها، لكن أن تتحول تلك الميزة إلى منصة للتباهي والاستعراض فذلك أمر قد يستهوي سياسي مثل السيد جونسون، ويقيناً، ينفر منه عالم لغة كالبروفسور كيلي.

وأعترف أن السيد جونسون لا يعرفني، ولا أعتقد أنه يود التعرف إليَّ. ورأيي الشخصي في علاقته باللغة اللاتينية لايهمه من بعيد أو قريب. ورغماً عن كل ذلك، فإن ذلك، أيضاً، لايمنعني من القول إنني أجده ثقيل الدم، أنانياً، ومشاهدته في وسائل الاعلام تسرق راحة نفسي مني.

هذه السطور غير مكرسة لعلاقة غير موجودة، أصلاً، بيني وبين السيد جونسون، بل مكرسة للحديث عن غرائبية البروفسور ادوراد كيلي، أبرز علماء اللاتينية في جامعة كامبريدج.
ما أستأثر بأهتمامي في عرض سيرته المهنية والحياتية في ذلك النعي، هو أن مكتبه بجامعة كمبريدج، كان قِبلة لكل الطلاب الراغبين في دراسة اللغة اللاتينية أكاديمياً. لكن البروفسور كيلي، لايقبل في صفوف تدريسه سوى قلة يختارها بالملقط. الدرجات العلمية، والإجادة للغة، أو غيرها من الأمور الأكاديمية، تأتي في آخر قائمة القبول. المعيار المهم شيء آخر مختلف.

كان للبروفسور طريقة غريبة في اختيار من يقبل ومن يرفض من الطلاب الجدد. المعيار والحكم هو القط فوفو! فالبروفسور كان، حريصاً، أن يكون مرفوقاً بقطه فوفو، في ساعات تواجده بالمكتب الجامعي لاجراء المقابلات. وكان بالمكتب كرسيان، واحد له، والآخر للقط فوفو.

قبول الطالب الجديد من عدمه، يستند على الطريقة التي يتعامل بها الطالب لدى المقابلة مع القط، لدى دخول المكتب. فإن هو دخل المكتب، وطلب منه البروفسور الجلوس، وليس بالمكتب غير كرسي واحد يشغره فوفو. كان لزاماًعلى الطالب أن يتجه إلى ذلك الكرسي وشاغره. ويتم ذلك، طبعاً، تحت أنظار البروفسور ومراقبته. لذلك، أطلق البروفسور على ذلك الامتحان اسم امتحان، أو أختبار فوفو.

فإذا اتجه الطالب نحو فوفو، وأزاحه عن الكرسي، ثم جلس مكانه، فهو لن يُقبل، ولو تكلم اللغة اللاتينية من أذنيه. أما إذا اتجه نحو الكرسي، وأزاح فوفو بلطف، ووضعه على الأرض بلطف ايضاً، وجلس مكانه، فإنه قد يكون من المحظوظين ويُقبل. أما إذا توجه الطالب نحو الكرسي، ورفع فوفو بلطف، وخاطبه ، وحك شعرات رأسه مداعباً، فهو بالتأكيد سيكون من المقبولين.

الغرض من امتحان فوفو هو رصد ما إذا كان الطالب الجديد يمتلك حرصاً على الانتباه للتفاصيل، لأن الانتباه للتفاصيل هو ما ميز السيد كيلي في دراسته الجامعية والعليا، وصار سمة تميزه في عمله الاكاديمي كأستاذ متخصص في اللغة اللاتينية.

وأعترف أنني حين ساغادر هذه الدنيا إلى أخرى، فإن لا أحد من أصدقائي أو معارفي سيذكر في خبر نعيه أو رثائه لي، أن فضيلة الانتباه للتفاصيل كانت من بين مزاياي التي عُرفتُ بها بينهم.

الأنتياه للتفاصيل، إن لم أكن خاطئاً، هو ما فاتنا كليبيين من أحداث وتفاصيل حدثت خلال مؤتمر برلين الأخير. كان الليبييون، على صفحات الـ«فيسبوك»، و«تويتر»، يتشاتمون ويتصارعون، دون أن يهتموا بتفصيلة صغيرة، وموجعة حد الآلم، وهي أن المؤتمر المنعقد كان يدورحولهم، لكن بدونهم!

الاهتمام بالتفاصيل تركوه للمجتمعين في مؤتمر برلين، وغيره مما سيأتي من مؤتمرات.