Atwasat

صعود نجم بوتين

فريد زكريا الأحد 03 أغسطس 2014, 01:19 مساء
فريد زكريا

عندما وضعت الحرب الباردة أوزارها، احتلت المجر مكانة خاصة في قصة الثورات التي اندلعت العام 1989. فقد كانت الدولة الأولى في المدار السوفياتي التي تتخلى عن الشيوعية وتتبنى الديمقراطية الليبرالية. واليوم، نراها تحدد الاتجاه السائد أيضًا، حيث أمست أول دولة أوروبية تشجب الديمقراطية الليبرالية وتنأى بنفسها عنها، وتتبنى بدلاً منها نظامًا جديدًا ومجموعة من القيم المُمَثَّلَة على أفضل ما يكون في روسيا بقيادة فلاديمير بوتن، والتي لها صدى أيضًا في دول أخرى.

سيعول نجاح «البوتينية» إلى حد كبير على نجاح بوتن وروسيا تحت مظلته

في خطاب أساسي الأسبوع الماضي، صرَّح رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان بأن دولته مصممة على بناء نموذج سياسي جديد أطلق عليه اسم «الديمقراطية اللاليبرالية».

وقد استرعى ذلك انتباهي لأنني كتبت في العام 1997 مقالة في مجلة فورين أفيرز Foreign Affairs مستعينًا بالإصطلاح نفسه لوصف اتجاه خطير. فقد تراءى لي أن الحكومات الديمقراطية، ذائعة الصيت عادة، تستخدم ولاياتها وسلطاتها من أجل القضاء تدريجيًّا على الحقوق الفردية، وفصل السلطات، وحكم القانون. لكنني لم أتخيل حتى أن يستخدم قائدًا وطنيًّا -سواء من داخل أوروبا أو من خارجها- ذاك الاصطلاح كوسام شرف.

صرَّح أوربان قائلاً: «أشهر موضوع يشغل تفكير الناس حاليًّا هو محاولة فهم كيف أن الأنظمة غير الغربية، وغير الليبرالية، بخلاف الديمقراطيات الليبرالية وربما حتى ليست ديمقراطيات تستطيع مع ذلك إدارة شعوبها». بالنسبة له، تغير العالم تغيرًا جذريًّا العام 2008 بالتزامن مع ما يصفه بـ «الانهيار المالي الغربي العظيم».

ويضيف أوربان أنه منذ تلك الفترة، أخذت القوة الأميركية تضعف، وأمست القيم الليبرالية اليوم تجسد «الفساد والجنس والعنف». لقد أضحت أوروبا الغربية أرضًا «للمتنطعين على حساب أنظمة الإعانات».
ويفسر أوربان أن النماذج اللاليبرالية النموذجية للمستقبل هي روسيا وتركيا والصين وسنغافورة والهند.

وبعيدًا عن قائمة أوربان الغريبة (الهند؟)، نجد أن أفعاله على مدار السنوات القليلة السابقة تدلل على أن نموذجه الذي يحتذي به هو روسيا بقيادة بوتن. لقد نفَّذ أوربان في المجر نسخة مما يمكن أن يوصف بـ «البوتينية» (نسبة إلى بوتن). ولفهم هذا النموذج، تستدعي الحاجة الرجوع إلى مؤسسة.

إن العناصر المحورية لـ «البوتينية» هي القومية والعقيدة والتحفظ الاجتماعي ورأسمالية الدولة والهيمنة الحكومية على وسائل الإعلام

عندما تقلد بوتن السلطة لأول مرة في العام 2000، بدا مديرًا قويًّا وذكيًّا وكفؤًا للأمور، وبدا مصرًّا على تحقيق الاستقرار لروسيا التي كانت تموج بالفوضى الداخلية وتعاني الكساد الاقتصادي وتتخلف عن الركب منذ العام 1998. وسعى بوتن إلى إدماج روسيا في العالم، وأراد إقامة علاقات طيبة مع الغرب، حيث طلب من واشنطن عضوية لروسيا في منظمة التجارة العالمية، وكذا عضوية في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو). ولقد ضمت إدارته تكنوقراطيين من الليبراليين الغربيين البارعين في التعاطي مع الأسواق الحرة والتجارة المفتوحة.

ولكن، بمرور الوقت، أرسى بوتن النظام في البلاد، بينما أمسى على رأس اقتصاد منتعش، حيث تضاعفت أسعار النفط أربعة أمثال تحت إشرافه. وبدأ بوتن في إقامة نظام قمعي لإحكام السيطرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحفاظ على سلطته. وبينما واجه معارضة، خاصة في الانتخابات البرلمانية التي أُقيمت العام 2011، أدرك بوتن أنه بحاجة إلى أكثر من القوة الغاشمة لهزيمة خصومه. لقد كان بحاجة إلى أيديولوجية للقوة، فشرع يصرِّح بها في خطاباته، حيث سنَّ القوانين واستغل منصبه لتوصيل فكرة التزامه بمجموعة محددة من القيم.

إن العناصر المحورية لـ «البوتينية» هي القومية والعقيدة والتحفظ الاجتماعي ورأسمالية الدولة والهيمنة الحكومية على وسائل الإعلام. وهذه العناصر كلها، بشكل أو بآخر، مختلفة عن القيم الغربية الحديثة الممثلة في حقوق الأفراد والتسامح والأممية وسياسة التعاون الدولي ومعادية لها أيضًا. من الخطأ الإيمان بأن هذه العناصر هي التي خلقت شهرته -فقد كان ذائع الصيت قبلها- لكنها أدامت تلك الشهرة وحافظت عليها.

لقد سار أوربان على نهج بوتن، فقضى على الاستقلال القضائي تدريجيًّا، وقوض حقوق الأفراد، وتحدث بلغة قومية عن المجريين العرقيين وكمم الصحافة. إن أساليب السيطرة عادة ما تكون أكثر تعقيدًا من الرقابة التقليدية. فقد أعلنت المجر مؤخرًا ضريبة مقدارها 40% على إيرادات شبكة التلفزيون المستقلة الكبرى الوحيدة بالدولة، الأمر الذي قد يفضي إلى إعلانها إفلاسها.

وإذا نظرنا حول العالم، سنجد أن هناك مَن تبنى العناصر الجوهرية لـ «البوتينية». فقد انحرف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان عن أجندته الإصلاحية متبنيًّا أجندة أكثر تحفظًا اجتماعيًّا، وأكثر إسلامية، وشديدة التعصب للقومية. ولقد مَارَسَ هو أيضًا حيلاً خبيثة لإخضاع الإعلام. وقد أعرب كثيرٌ من قادة اليمين المتشدد الأوروبيين -كالسياسية الفرنسية مارين لوبان، والسياسي الهولندي جيرت وايلدرز وحتى البريطاني نايجل فاراج- عن إعجابهم الصريح ببوتن وما يمثله.

سيعول نجاح «البوتينية» إلى حد كبير على نجاح بوتن وروسيا تحت مظلته. فإذا حقق نصرًا في أوكرانيا وحوَّلها إلى دولة مبتورة تأتيه حبوًا في نهاية المطاف، سيبدو ظافرًا. أما إذا نجحت أوكرانيا في إدارة شؤونها خارج مدار روسيا، فقد يجد بوتن نفسه على رأس دولة نفطية سيبيرية منعزلة عالميًّا.

(خدمة واشنطن بوست)