Atwasat

الفاخري.. المبصر الكفيف

سالم الكبتي الأربعاء 29 يناير 2020, 01:36 مساء
سالم الكبتي

من المبصرين الذين يتقدون بصيرة. فقد البصر لكنه لم يفقد البصيرة، هبة من المولى، حين عاد إلى إجدابيا العام 1944 كان قد وصل إلى مشارف الأربعين. فرحة العودة بعد طول غياب وغربة. بهجة الأهل في النجع البعيد وفي المدينة. وهنا رحب به قريبه الشاعر حسن لقطع أمام الجميع قائلاً: «الله يشرفك شرفت جملة ناسك.. جمعت المذاهب لربعة في رأسك».

تلك تحية الشعر وكرم الشعراء وسط مكارم الآخرين والغبطة المنتشرة. ذلك هو الشيخ عيسى بلقاسم الفاخري، الذي ترك النجع خلفه منذ أعوام ماضية وجاب الفيافي يطارد العلم والمعرفة، فقد والدته وشقيقه وشقيقته فيما ظل والده العجوز بمفرده في النجع البعيد.

كان قد استقر وعمره سبع سنوات في دور بنينا. الهضاب والمرتفعات التي تطل على بنغازي المحتلة بغزو قادم من وراء البحر ينوي أن يشاطئها ويستوطنها بالكامل، وحفظ الأشعار التى تدور بين الناس وتعلم منهم وكون تجربة عمره من المعايشة المباشرة. كان يعتبر الشعر الشعبي قيمة كبيرة ومصدراً من مصادر التاريخ الليبي وتفاصيله الدقيقة. درس القرآن وحفظه في أماكن متعددة بحكم التنقل والتجوال. بداية في النجع ثم في المناطق الأخرى. شيوخه تنوعوا ما بين سمنو في فزان والجغبوب ومصر، واستفاد منهم بلا توقف. قال لي إن تاريخه أحاطته العناية الإلهية والله خير حافظ في كل الأوقات والظروف. كنت كفيفاً ووحيداً في مواجهة الأيام العسيرة.

الاحتلال والغربة والبعد عن الوالد والأهل.

في الأزهر وضع رحاله بعد رحلة ومعاناة طويلة وتحدٍ للمشاق ومفاجآت الطريق الطويل. الدروس في الحلقات. وحي الحسين والغورية.. والأزهر محطة العديد من أبناء العرب والإسلام، احتوتهم الأروقة والحكايات والعلم والحنين إلى الأوطان، نال شهادة الابتدائية الأولية العام 1931 ثم شهادة الأغراب العالمية العام 1940، كان الشيخ عيسى أول كفيف من برقة يحصل على هذه الشهادة فيما كان ترتيبه الثالث من مجموع ثمانية طلاب.

هناك في الهجرة حيث ظل ستة عشر عاماً طالباً ودارساً صار جزءاً من أسرة زميله الأستاذ علي مصطفى المصراتي الذي أفرد عنه فصلاً خاصاً في كتابه «نماذج في الظل» في مرحلة تالية من السنوات.. كان الشيخ عيسى يعد أسرة المصراتي أهله وعشيرته. لم ينسَ الفضل على الإطلاق. أيام الهجرة والعذابات والوقفات النبيلة بين أبناء الوطن في ديار الهجرة. في مصر أيضاً كان من أعز أصدقائه الهادي انديشه ومحمد علي الويفاتي من طرابلس. صداقة وود ومحبة. الوطن في عيون الجميع. في الهجرة والاغتراب ثم في الداخل. الوطن ولا شيء آخر. ثم حين عاد لإجدابيا لم ينسَ أيضاً مروءة أخوته المجابرة. كان الناس أخوة دون فرق.

وكان الكثير من الرجال يقدر أهل العلم ويجلهم ولايتأخر في إكرامهم دون أي منٍّ. وقال الشيخ لي إنه حين رجع إلى إجدابيا: «لم أكن أعرف فيها أحداً في الغالب من سكانها. لكن المرحومين الشيخين محمود بوهدمة وبوسيف ياسين تولياني بالرعاية والاهتمام، وأصرا على بقائي فيها وعدم مغادرتي إلى موطن قبيلتي جنوب إجدابيا».

في المسجد بأجدابيا وفي لقاءات النجع البعيد كان الشيخ الذي لم يفقد بصيرته يعطي درساً بعد صلاة العصر. كان الحديث طلياً وجميلاً ينساب إلى العقول والنفوس ويستقر فيها بكل سكينة دون مغالاة أو ترهيب. والأدلة واضحة وبينة من كتاب الله العزيز والسنة الشريفة وأخبار الصحابة والصالحين الخالية من التشويش والخرافات التي شابت تراثنا الفكري الإسلامي العظيم. قال: «كنت أثناء الدرس أؤيد كلامي أيضاً بما يفهمونه أو يقرب الفهم إليهم بواسطة غناوي العلم وأبيات من الشعر الشعبي وأحياناً كان ثمة درس آخر في الشعر بعد نهاية دروسي لحسن لقطع. الشاعر الكبير صاحب أعذب قصائد الغزل والوصف وأقسى أنواع الهجاء. درس في الدين وآخر في الدنيا. وهكذا الحياة كما أرادها الله بسيطة بلا عقد أو مشاكل أو تنطعات ومزايدات. البساطة التي كانت تميز الحياة وتدعها جميلة وغير معقدة أو قبيحة».

طوال أيام العمر ظل الشيخ عفيفاً وعزيز النفس، لايحب الذهاب إلى الموظفين والدوائر الحكومية ولايقصد الموسرين، انصرف للعلم وخدمة الناس جميعاً، ولم يكن في حاجة ملحة إلى أن يتجه إلى الدوائر المتعددة أو غيرها من مربعات مختلفة.

الشيخ عيسى الفاخري لم يكن بصيراً، فقد البصر في طفولته لكن بصيرته كانت في القلب والعقل والحياة. حياته تجربة رائعة وغالية وصادقة لكل ذي عينين مبصرتين.