Atwasat

كيف يمكن أن تساعد السردية الوطنية لليبيا في بناء السلام (2- 4)

الزهراء لنقي الإثنين 27 يناير 2020, 09:30 مساء
الزهراء لنقي

غالبًا، إن ما سبق يرجح أن النظام الأنسب لليبيا في هذه المرحلة هو ذلك النظام الذي سيستلهم هذا الإرث الذي يدمج ما بين «الاتحادية» و«اللامركزية الواسعة» و«المركزية متعددة الأقطاب». ولعل هذا الإرث وقوة بصمته الوراثية هو ما أدى إلى بروز مطالبة اعتماد النظام الاتحادي واللامركزية منذ بداية المرحلة الانتقالية العام 2011. وهو ما جعل هذه المطالبة تصمد وتتجاوز اختبار الزمن. ولعل هذا الإرث هو ما يوجب استكشاف حلول ابتكارية إبداعية تمكن من تحقيق هذا المزيج الذي يرضي المطالبين باللامركزية ويرضي المطالبين بالمركزية في نفس الوقت.

ثالثًا: تصور هوياتي منفتح
يشترك الليبيون في أنهم يحملون تصورًا هوياتيًا، جوهره تبني هويات متعددة تبنيًا تلقائيًا يتسم بالانفتاح. الليبيون يدركون أنهم في مجموعهم يجمعون بين الانتماء إلى الصحراء والبحر في آن. كما يدركون أنهم يجمعون بين الانتماء للبادية والحاضرة في آن. أيضًا، الليبيون واعون أن بلدهم يقع جغرافيًا ضمن نطاق عدة أقاليم، وأن هذا ما جعل المجتمع الليبي يضم مكونات ثقافية متنوعة. فليبيا جزء لا يتجزأ من إقليم شمال أفريقيا، ومن الدائرة العربية ومن الدائرة الأفريقية ومن الدائرة المتوسطية. أخيرًا، يدرك الليبيون أن بلدهم يقع في مركز العالم. وأن لدى ليبيا أطول ساحل على البحر المتوسط الذي يتوسط المعمورة. وأن ليبيا تربط بين قارتين (أفريقيا وأوروبا) وتجاور قارة ثالثة (آسيا). ولذلك، فقد كانت ليبيا على الدوام معبرًا تجاريًا وسياسيًا مهمًا. ولذلك، فإن المجتمع الليبي يضم مواطنين من أصول متنوعة وكثيرة. فهناك على سبيل المثال لا الحصر مواطنون ذوو أصول عربية وأمازيغية وتبوية وطوارقية وكريتلية وقبرصية وتركية وشركسية. لذلك أيضًا، فإن الشخصية الليبية تعي بعدها الإنساني العالمي وعيًا كبيرًا.

لقد مثل حمل تصور هوياتي جوهره تبني هويات متعددة تبنيًا منفتحًا حافزًا لأن يكون التآلف، لا على حرب أو مواجهات أهلية خرج منها غالب ومغلوب، هو ركيزة عملية تجديد بناء ليبيا المعاصرة خلال قرن (1850 تقريبًا- 1951) ولأن يرتكز حس الوطنية والقومية الليبية بصيغته المعاصرة، كما وفر ذلك مناعة نسبية ضد الانجرار إلى حروب داخلية وخارجية مزمنة على أساس تحيزات هوياتية شوفونية مغلقة. لم تنبثق عملية تكوُّن ليبيا المعاصرة عن حرب أهلية مزمنة ولا عن حرب توحيد داخلية، ولا عن حرب حدود. في الساحة الداخلية، إن سجل ليبيا خلال أكثر من نصف ألفية يشير إلى أن ليبيا من البلدان التي تمتعت بسلام داخلي لفترات طويلة. كما أتاح هذا التصور الهوياتي لمكونات الأمة الليبية من قبائل ومدن مواجهة صور العدوان والاعتداء الحاصلة داخليًا، التي أهمها النهب والإغارة وقطع الطريق ووضع أعراف لمكافحتها. لا يمكن إنكار أنه كانت هناك نزعات انغلاق وجهوية وعنصرية أسفرت عن نزاعات حهوية بين القبائل بل وبين بطون القبيلة الواحدة. ويرجع ذلك لأسباب كثيرة منها التحيزات الاجتماعية وكثرة الاعتداءات الخارجية التي تعرضت لها ليبيا بسبب موقعها، ومنها وجود مساحات جغرافية واسعة غير مأهولة سكانيًا خلت من وجود سلطة تضمن الأمن. على أن التصور الهوياتي الكلي المنفتح مثل أساسًا لمواجهة هذه النزاعات. فكلما اندلعت خلافات أو صدامات جهوية أو قبلية، تسنى إبرام مصالحات اجتماعية وسياسية. وخلال القرنين التاسع عشر والعشرين اللذين من خصائصهما كثرة الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية في كثير من بلدان العالم. لم تشهد ليبيا حروبًا داخلية. على مستوى العلاقات الخارجية، اتسمت علاقاتها الخارجية بقدر من التعايش أو السلام مع جيرانها. وهذا باستثناء فترات قصيرة جرَّت فيها لحرب مع جارتها تشاد. وكلما تعرضت الأمة الليبية لعزلة عن الخارج، عادت وانفتحت على الخارج.

إن هذا التصور الهوياتي القائم على تبني هويات متعددة تبنيًا يتسم بالانفتاح في المستقبل يرجح أن القوى السياسية والمجتمع ككل قادران على التفاعل تفاعلًا رصينًا داخليًا مع بعضهم، والتفاعل إقليميًا مع جيرانهم، والتفاعل مع الجهات الفاعلة على الساحة العالمية، والاستفادة من هذا التفاعل في إنهاء الخلافات والنزاعات المسلحة. كما يرجح أنه في حالة حصول نزاعات سياسية و/أو مسلحة، كالنزاع القائم حاليًا، فإنه من الصعب للغاية إنجاز تسوية ترتكز على الغلبة والقهر وتوخى تحقيق معادلة صفرية.

رابعًا: الحرص على الاستقلال الوطني والسيادة
الليبيون لديهم حرص كبير على الاستقلال والسيادة وهو ما تجسد في جهود الاستقلال وما رافقها من تضحيات في مواجهة الاحتلالين الإيطالي والفرنسي، ولاحقًا في مواجهة النفوذ البريطاني، وهي الجهود والتضحيات التي يفتخر بها الليبيون. منذ منتصف القرن التاسع عشر، وطيلة قرن كامل، انطلق مسعى تأسيس ليبيا كبلد مستقل. برزت الدعوة السنوسية في برقة وأقامت كيانا عاما بحكم الواقع اكتسب ذاتية متصاعدة بمرور الوقت ورفدت البلاد بقيادة لمدة قرن كامل. كما بذلت القبائل والعائلات والأعيان جهودا حثيثة لملء الفراغ الذي أدى إليه تراجع السلطنة العثمانية في طرابلس وفزان. ثم قاوم الليبيون الاحتلال الإيطالي مقاومة شرسة وطويلة الأمد. هذه المقاومة أرهقت الاحتلال الإيطالي ووضعت قيودًا حول سيطرته على البلاد، كما أسهمت في إضعافه قبل انخراط الحكم الفاشي في إيطاليا في الحرب العالمية الثانية. إن القبائل والعائلات الممتدة والأسر الليبية اليوم تشترك في أن كل منها لديه بين أجداده من أسهم بطريقة أو بأخرى في مواجهة الاحتلال الخارجي و/أو في تعزيز استقلال ليبيا. كثير من العائلات والقبائل لديها شهيد أو أكثر ارتقى في مواجهة الاحتلال الفاشي، أو شخص كانت له مشاركات في الحيز العام على المستوى المحلي أو الوطني أسهمت في تعزيز جهود الاستقلال.
هذه الاعتبارات عززت من استقلال القرار الوطني الليبي. مثلًا، خلال الخمسينات، ومع أن دولة الاستقلال لم تكن بعد قد راكمت قدرًا كبيرًا من أسباب القوة المادية، كما هو حال أي دولة وليدة، ومع فارق الإمكانيات المادية بالمقارنة مع القوى العظمى، فإن ليبيا واجهت الكثير من الضغوط التي مارستها القوى العظمى عليها ورفضت الكثير من الإملاءات. وخلال المرحلة الانتقالية التي أعقبت إسقاط الحكم الفردي، وعلى الرغم من كثرة التدخلات الخارجية والفارق الكبير في الإمكانات المادية، كان الإخفاق مصير جميع الضغوط الخارجية.

مع ذلك، فإن سلوك الأمة الليبية، وكذلك القيادة السياسية، اتسم بالانفتاح على التفاعل مع الساحة العالمية. وقد انعكس خلال عملية اكتساب ليبيا استقلالها التي حصل خلالها تفاعلا كثيفا بين ممثلي الأمة الليبية والمجتمع الأممي والأمم المتحدة. وقد انعكس ذلك في صدور قرار الجمعية العامة رقم٢٨٩ الذي اعترف بليبيا كبلد مستقل.

ما دلالات ذلك بالنسبة للمستقبل؟
أهم دلالات ذلك أولًا، أن الشرط الأساسي لنجاح أية تسوية للنزاعات القائمة أو أي نزاعات مستقبلية هو أن تتوافر لدى الليبيين أنفسهم إرادة التسوية، وأن تكون الحلول صناعة ليبية وطنية قبل كل شيء. يتكامل مع ذلك أن بنية الشخصية الليبية منفتحة على فكرة الاستعانة بالجهود الخارجية لتسوية النزاعات الداخلي. وفي كل الأحوال، فإنه لا مستقبل للحلول المستوردة المعلبة.