Atwasat

نبضات متقاطعة: 19 – من النكسة نحو الطفرة الثانية

محمد عقيلة العمامي الإثنين 27 يناير 2020, 12:26 مساء
محمد عقيلة العمامي

بررت الهزيمة: «أن الجيوش المصرية كانت تتوقع غزو الطيران الإسرائيلي من الشرق ففوجئوا به من الغرب»، ولكن هذا لم يحدث، إذ لم تؤكده أية وثائق، لا حينها ولا فيما بعد. فلقد كانت «النكسة» مؤلمة للغاية مما جعلنا نتجاهل حقيقة مرة أساسها أن عبد الناصر - رحمه الله - كان مخلصاً في عروبته وقوميته، ولكن إعلامه فقط هو ما نجح في إبراز هذه العروبة، ولكن مراكز قواه، خصوصاً الإعلامية، غيبته تماماً عن حقيقة التسيب الرهيب في قيادات أركانه، ولأننا كنا بعيدين ومغيبين عما يدور في الواقع بأروقة القيادة المصرية، إذ لم نكن نعرف شيئاً سوى أن نتجمع لتلتقط لنا صورة كما كان يغني لنا عبد الحليم حافظ، لنرددها كما لو أنها ملحمة حقيقية.

إعلام عبد الناصر كان قوياً بدرجة حجبت عنا حقيقة ما يدور في عهده، تماماً مثلما فشل الإعلام الليبي حينها في إقناع الناس بقيادة الملك الحكيم، ولعل ما ظهر أخيراً من معلومات تؤكد قوة الملك إدريس، رحمه الله، وحكمته، التي اتضحت عندما طلبت أميركا تخصيص نسبة من دخل ليبيا بعد تفجر البترول، للإنفاق منها على فقراء أفريقيا، المنهوبة حينها من الغرب، فيرفض طلبهم، ويرد عليهم، بشهادة الدكتور علي الساحلي، بأن خير بلاده لأبناء وطنه ثم لإخوانه العرب والمسلمين، وإن بقي شيء منه فإنه لا يمانع أن يصل أفريقيا! هكذا تقول الوثائق.

لقد فشل الإعلام الليبي في نقل الصورة الحقيقية للقيادة الليبية الحكيمة سوى على مستوى الديوان الملكي، أو رئاسة الحكومة. ولو قارن المتخصصون كيف تصرف الإعلام الإسرائيلي والإعلام العربي لبانت الهوة الرهيبة بين نجاح الأول وفشل الثاني، إذ لم تمر أشهر معدودة حتى وصل يهود ليبيا، مثلاً، إلى إسرائيل من دون رغبة حقيقية منهم في الهجرة إلى فلسطين، بل ظل معظم القادرين منهم - حتى الآن - في أوروبا. الإعلام العربي هوَّل بقاء اليهود المولودين أساساً في بلادنا، واتهمهم بالخيانة، وحملهم مسؤولية «النكسة» فيما نجح الإعلام الإسرائيلي في تأجيج الرأي العام العالمي ضد العرب بسبب اعتداءاتهم على مواطنيهم اليهود! فنجحوا في ترحيل أعداد كبيرة إلى الأرض الموعودة، بعد أن فشلوا في استقطابهم سنوات طويلة.

أيام هزيمة يونيو 1967م انطلق الناس غاضبين نحو محلات اليهود، وأحرقوها بالكامل فيما اتجه الغوغاء، وكنت لأسفي الشديد منهم، نحو مخازن خمور اليهود، وأفرغوها في ليلتين بالكامل، وتجرعناها مع الهزيمة طوال عمرنا.

غضب الشارع من بعد أحداث يناير، وتنامي رفض فرض الصمت وتكميم الأفواه، مثلما كنا نعتقد، قابله الحكم الملكي، سنة 1965بالإيفاد المنظم للطلبة المتفوقين في شهادتهم الثانوية للدراسة في الخارج، خصوصا بريطانيا، وأقل إلى أمريكا وفي السنة نفسها عرفت أن هناك عملا سياسيا منظما، فلقد قام اثنان من أصدقائي هما عوض عبد الحفيظ شمسه ومحمد محمود زيو، من بعد أن أقنعهما عوض المختار بتوزيع مناشير ضد الحكومة أعدها المحامي أحمد يوسف بورحيل في مكتبه، فقاما بذلك من بعد جنازة شهداء 13 و14 يناير 1964.

وهكذا انقسم الشباب ما بين راغب في الدراسة في الخارج فحقق ذلك بالاجتهاد في دراسته، أو شباب آخر كانت الهجرة هي غايته، فاختصر زمن الدراسة في تجربة سريعة، فقرروا أن يصنعوا لأنفسهم مستقبلاً خارج البلاد، هاجر مبكرا من أصدقائي على سبيل المثال عبد الله الدرسي، إلى أمريكا، وحسن البرغثي «الطرشمانة»، خليفة حامد وعمر جعاكه وأكيد غيرهم كثيرون، إلى بريطانيا. ولكن مواسم الهجرة توالت من بعد سنة1967، ويرجع ذلك لسببين، أولهما الانفتاح على العالم، فحتى مطلع الستينيات لم يتوفر الراديو، لا في بيتنا، ولا بمعظم منازل الليبيين! وعندما وصل (الراديو الترانسيستور) في النصف الثاني من الستينيات، خلق ثورة إعلامية في البلاد كافة، وعندما افتتح تلفزيون ليبيا سنة 1968 تمكنتُ من شراء تلفزيون، فكان جيراننا يتجمعون أمامه قبل البث.

ثم أخذ دخل الفرد في الارتفاع، خصوصا الشباب الذين حالت ظروفهم دون مواصلة دراستهم، ووجدوا في مرتبات حقول النفط العالية تعويضا لهم، وبات في متناولهم أن يعودوا مباشرة من الصحراء، أو من موانئ النفط نحو شركة الطيران ليحجزوا رحلة في اليوم الموالي للقاهرة، أو أثينا، أو بيروت. أما الذين تمكنوا من اجتياز المرحلة الثانوية فكانت المكافأة سخية سواء بالمنح الجامعية التي كانت تعادل مرتبا متواضعا، أو في الوظيفة المرصودة لتخصصه بعد تخرجه، أو في بعثة دراسية إلى الخارج.

العلاقة بالعالم الخارجي أصبحت متصلة طوال والنهار، لم يعد صوت العرب، وإذاعة الشرق الأوسط وإذاعة لندن أو صوت أمريكا هي فقط مصادر معلومات الناس، وصل (الاريال) الهوائي بلادنا وتمكن الليبيون في ليالي الصيف من رؤية تلفزيون إيطاليا، وفي طبرق ودرنه يرون التلفزيون المصري، ولم تعد الحركة السنوسية هي فقط طريق الإيمان والخلاص من الشرور والفقر. بدأ لحزب البعث مريديه من شباب أخذوا بأفكاره، وآخرين بالناصرية والقومية العربية، وأخرون أخذوا بالشيوعية. وما إن أعلن الضباط الوحدويون الأحرار قيام الجمهورية حتى خرج الناس إلى الشوارع تهتف للجمهورية قبل أن يعرفوا من وراء الحركة وماهي أهدافها!.

وكانت أغنية محمد عبدالوهاب الشهيرة تصدح باتساع ليبيا:
"إن فات عليك الأسى، والظلم فيك احتار ... انده على الثوار يبيعوا أرواحهم في عز أتراحهم ! "

استمرت تذاع يوميا، ولحقت بها أغان ليبية كثيرة منها ما كتبت كلماتها بعفوية، ولحنت سريعا، وأصبحت كالأغاني العاطفية، فلقد خيل للناس أن مشاكلهم كلها انتهت وأن الرخاء آت لا ريب فيه! والحقيقة أنه تزامن مع سنواتها الأربعة الأولى، رخاء وبذخ وأموال كثيرة، وصارت ساعات الرولكس الذهبية.. علامة تميز مقاولي المشاريع العسكرية، أما المرصعة بالألماس ففي أيدي رجال المصارف التي فتحت خزائنها لتنفيذ مشاريع التطوير العمراني.

لقد صورت تلك الفترة في روايتي "تمر سيوة ولبن قرقارش" والتي انتقد أحدهم – بخبث – بعد 17 فبراير2011 أنني صورت فرحة الناس بإطلاق سراح المساجين تزلفا للنظام، ولكنه لم ينتبه إلى أنني تركت سؤالا بتواصل الفرحة، يفرض نفسه، ومن دون إجابة عنه وهو: "من سجنهم؟ ولماذا سجنوا؟ ". تلك هي الطفرة الثانية، والتي سنتناولها اعتبارا من الحلقة القادمة.