Atwasat

ليبيا في التعادلية الأمريكية

نورالدين خليفة النمر الأحد 26 يناير 2020, 12:31 مساء
نورالدين خليفة النمر

استغرب صديقي الإيراني الذي أكمل اختصاصه العالي في الكيمياء، قبل قدومي لجامعة كارل أوزيتسكي بمدينة أولدنبوغ عام 1994 بسنوات، أن أدرس السياسة في ألمانيا التي ليس لها سياسة خارجية مستقلة في قضايا عالمنا الشرق أوسطي. فبينت له أن اختصاصي الأصيل هو الفلسفة، والسياسة فرع ألزمتني به إجراءات المعادلة. وقد وافقته بأن أمريكا هي البلاد المثلى لدراسة السياسة للمختصين فيها من بلدانَ الشرق الأوسط البترولية كليبيا وإيران. تبوأهم مركزاً بحكم أنه كان للنفوذ الأميركي ورديفه البريطاني دور حاسم فيهما في حقبة مابعد الاستعمار وتداعيات الحرب الباردة أضراراً تستلزمها السياسة التعادلية ومصالح تستدعيها المنفعة.

حسب التعريف الذي اقترحه للنفعية فلاسفة أمريكا البرغماتيون كشارلس بيرس ووليم جيمس كونها اتجاها فلسفياً يتوّخى مذهباً مصالحياً يرى في المنفعة العملية للمعارف مصدراً لها ومعياراً رئيسياً لصحتها، فالبرعماتية Pragmatism السياسية ضربٌ من توّجهات الفلسفة أملته الظروف الأمريكية على الساحة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية ليشكل تياراً مثاليا ذاتياً في أوساط الأنتلجنسيا الأمريكية، طوّره جون ديوي في "الأداتية instrumentalism“ وبريجمان في "العملياتية operationalism ". ورغم تعدّد متفرعات المنافعية، إلا أن المصلحة لم تزل، كما تبلورها في السياسة المعرفية البرجماتية، المسبار الذي يمتحن به الدارس للموقف الأمريكي في القضايا الشرق أوسطية الشائكة التي تجدّدت بالعشرية الثانية من القرن الـ 21 ومازالت تنفذ فيها العناصر المتبقية من تفاهمات وصراعات القرن الـ 20 بنود مؤتمر يالطا متداخلة مع ملامح تجدّد بعناصر متواترة لعوامل الحرب الباردة التي يُستعاد تأجيجها بنزاع المصالح الدولية الجديدة.

فقد اقترحت المستشارية الألمانية بديل الحرب بالوكالة الجارية منذ 4 أبريل 2019 لحساب قوى دولية وإقليمية بلا حسم أو تراجع في ليبيا على تخوم عاصمتها طرابلس، فتوكلت عن الولايات المتحدة إلى الدعوة لمشروع ترتسم فيه ملامح مؤتمر لحل سلمي للقضية النزاعية الليبية. كان يمكن لهذا المؤتمر أن يمطط موعده تضارب المنافعية بين فرنسا وإيطاليا. لولا إبرام حكومة الوفاق في العاصمة طرابلس اتفاقاً مع الحكومة التركية يدعمها في دفاعها إزاء الهجوم عليها من قبل القوات المتمردة المسنودة بالمرتزقة الروس على مشروعيتها الدولية. وكما تابعت وسائل الإعلام فإن الولايات المتحدة حضرت مفاوضات مؤتمر برلين المنفرط حول ليبيا ممثلة بوزير الخارجية. فالمشارك الأمريكي كان الحاضر ـ الغائب بسبب قلة وضوح السياسات فى الأزمة الليبية.

التى انطوت على تناقضات والتباسات يصعب فك ألغازها بالذات فى الموقف من قائد ميليشيات مُسمى الجيش الوطني مرة تدعمه فى سعيه لحسم الصراع ضد مُسمى الجماعات الإرهابية بقوة السلاح ومرة أخرى بحسابات مع العاصمة التركية أنقرة تدعوه لوقف هجومه على طرابلس التي يفترضها في غزوه أنها مأواها. لكن ما أكسب الحضور الأمريكي قيمته نفوذه إزاء الطرفين النزاعيين اللذين يحتكران السلاح والحرب في ليبيا بأن اجتمع وفد أمريكي عالى المستوى في روما بشكل منفصل في8 يناير2020 مع وزير داخلية حكومة الوفاق المعبر باسم القوة الحربية لمنطقة مصراتة النافذة في الغرب الليبي، وقائد مُسمى الجيش الليبي الذي اختصر إقليم برقة في زعاميته المسلحة.نتائج هذا اللقاء هي التي أرهصت لإعلان موسكو لوقف إطلاق نار مستديم في 8 يناير 2020 .

بالعودة إلى مؤتمر برلين فقد رصدت ـ عن موقع الوسط 21 يناير 2020 ـ صحيفة "لا كروا" الفرنسية، تحت عنوان "التزامات المجتمع الدولي في ليبيا غير مؤكدة" أبرز مارأته ثغرات في الوثيقة المنبثقة من مؤتمر برلين بشأن ليبيا، ومنها غياب جدول زمني لوقف الأعمال القتالية، إضافة إلى عدم فرض عقوبات على من ينتهك الهدنة أو حظر توريد الأسلحة إلى ليبيا، مشيرة إلى رفض عدة دول إنشاء آلية عقوبات. وبخصوص المشهد الانقسامي الليبي أشارت الصحيفة الفرنسية إلى حضوره في برلين سياسيا وعسكرياً ممثلاً في رئيس حكومة الوفاق وممثل كتائب مصراتة وزير الداخليه المفوض، بينما الطرف المقابل فمثله عسكرياً فقط قائد مُسمّى الجيش الليبي، لكنهما لم يلتقيا أو يوقعا على الوثيقة، ولم يبديا أي معارضة لها، كما شككت في احترام الالتزامات التي تم التعهد بها، بدءا من تحويل الهدنة التي كانت سارية منذ 13 يناير، تحت ضغط من روسيا وتركيا، إلى وقف دائم لإطلاق النار وباحترام الحظر المفروض على تصدير السلاح.

تساعدنا الفلسفة في بلورة مفهوم المنافعية "البرغماتية" ولاتساعدنا السياسة في فهم التعادلية موقفاً أمريكياً غامضاً بالتعاطي في النزاعيات الانقسامية التي رأينا مشاكلها تعصف ببلد كـليبيا صراعه الداخلي البيني مازال يحفه نقص الفهم والمعرفة. هذا الأمر يلجئنا إلى مفاهيم فكرية تظل ناقصة التحديد المعرفي كالتعادلية والجوانية، افتعلتها البيئة الفكرية التي تعاطت مع الفوضى التي ألزمتها معطيات حقبة مابعد الاستعمار التي هيمنت من أربعينيات القرن الـ 20 على مجتمعياتنا الشرق أوسطية. فمصطلح التعادلية سكّه الكاتب توفيق الحكيم فلسفة لكتابته من تعادل الجاذبية بوجود قوتين يحافظ التعادل على بقائهما دون أن تتلاشى قوة في القوة الأخرى.

وقد أشارت إلى هذه التعادلية صحيفة "لا كروا" الفرنسية بأن أوردت نقاطاً انتبه إليها أحد البُحاث في معهد كلينجندال، كعدم تحديد النص المعتمد جدولا زمنيا لوقف الأعمال القتالية، ولا فرض عقوبات في حالة انتهاك الهدنة. ومعارضة عدة دول منها فرنسا وروسيا، إنشاء آلية عقوبات لمخالفي الالتزامات المقرة في المؤتمر.

أما أسوأ النتائج التي أفضى إليها مؤتمر برلين هشاشة الاتحاد الأوروبي في توّحد موقفه إزاء العبثيات بالمصدر الاقتصادي النفطي لليبيا، التي ماانفكت تقترفها القوة المسلحة لميليشات الكرامة في قاعدة الرجمة عبر القوات الزبونية المساندة على تخوم العاصمة طرابلس. فقد أشارت صحيفة "آكي" الإيطالية إلى أن مصادر إعلامية تحدثت عن «فيتو فرنسي» لإدانة أوروبية مشتركة تقدمت بها في بروكسل إيطاليا والمملكة المتحدة بُعيد انتهاء أعمال مؤتمر برلين لإغلاق منشآت نفطية في ليبيا، وذلك على الرغم من صدور ضوء أخضر أميركي لهذا القرار، الذي جاء بعد "طلب صريح" من حكومة الوفاق الوطني في العاصمة طرابلس.

في مقاله عن صحيفة الشرق الأوسط ": "شبح الحرب في الشرق الأوسط مع تراجع أميركا" أرجع الكاتب "برنارد هيكل" غموض التصرّف الأمريكي الذي مازال يعصف بالقضايا الشرق أوسطية إلى ما يُسمى بسياسة "الموازنة الخارجية“. ولتوضيح ذلك أخذ المثال الليبي نموذجاً، كنتيجة لإشارات أميركا المتكررة للاعبين المحليين بأنها تتخلى عن المنطقة وأنها لم تعد مستعدة للتدخل سياسياً أو، إذا لزم الأمر، عسكرياً للحفاظ على النظام. ولتقدير هذا الانعكاس الكامل في الموقف الأميركي، يتعين على المرء أن يفهم تاريخ السياسة الأميركية المستمر إلى اليوم في الشرق الأوسط.