Atwasat

نيجيريا ذلك اليوم

سالم الكبتي الأربعاء 22 يناير 2020, 01:16 مساء
سالم الكبتي

السبت 15 يناير 1966. قبل عيد الفطر بأسبوع. أواخر شهر الصوم.

فزعت لاجوس في كل أطرافها. انقلاب حدث في نيجيريا بعد استقرار دام بضعة أعوام. أفريقيا تنهض وتصحو على الشمس. حصلت مجموعة من أقطارها على الاستقلال وبدأت السلطات الوطنية في كل قطر المسير نحو الهدف لتحقيق الأحلام والعدالة والبناء. أضحى العبيد سادة في أوطانهم. واحتسوا الكاكاو وشراب الأناناس في سكينة ولم ينافسهم غريمهم الأبيض في ذلك الاحتساء. تغيرت الصورة القديمة بأخرى جديدة.

في ذلك السبت البعيد اعتقل الرئيس أبوبكر تفاو بليوه فيما قتل الحاج أحمد وبللو سرداونه وزوجته. أحرق منزلهما. كان رئيسا للوزراء. ورجلا من أحفاد المجدد عثمان دان فوديو. قطع أشواطا كبيرة في سبيل ازدهار وطنه صاحب التنوع المتعدد جغرافيا من حيث المكان ومناخيا. بلد متباين السكان والمناخ في قلب أفريقيا. ومع رفاقه حققوا التعايش السلمي والأهلي بين الأقليات دون أية نعرات أو إقصاء. حساسيات وعنصرية خلفها الاستعمار القديم تحت الرماد. كانت جاهزة للاشتعال والانفجار.

كانت نيجيريا محل تقدير تلك الأيام داخل أفريقيا وخارجها. وكانت عنوانا من عناوين التسامح والتقارب والتآخي في البلد الكبير الذي يشكل قارة وحدها. واجهت الأزمات بكل صبر وحكمة ولم يستطع أحد أن يستغل الظروف في إلقاء البلد في حفرة لا قعر لها من التخلف والموت. ورغم المشاكل والمصاعب مضت في دروبها شامخة تعتز بتراثها وتاريخها وتفخر به. الهوسا مع الفولانيين. العربية وكل اللهجات. الإسلام والمسيحية. السلاطين والجماعات. الإمارات والمحميات. سكتو وكانو. بورتو وكابار. حدود النيجر والكاميرون. نسيج معقد ومتشابك لكنه ناجح إلى حد معقول. وكان العالم بأسره ينادي بالسلام. لقد اكتوى بنيران الحروب والعداءات ولم يعد له ثمة وقت للمزيد. أطلت أيام جديدة من الحداثة والتغيير والاختراعات وعبور الأجواء والاتصالات والتقدم العلمي المذهل والوصول إلى الفضاء. اعتبر الاستعمار أضحوكة وموضة قديمة لا تتسق وروح العصر. غير أن العطار بأدواته العتيقة لا يصلح الفساد. والأطماع بين البشر والتحاقد تجد طريقا سهلا للنيل من النفوس والعقول. الاستعمار القديم وحده لا يكفي. لابد من عناصر إضافية تثير الزعزعة وتجدد الحساسيات والمشاكل.

بعد ذلك بأشهر عام 1967. انفجرت التصدعات. انشطر البلد الكبير. صار الشقاق العنيف واندلعت الحرب الأهلية وانفصل إقليم بيافرا. وجد المرتزقة من الخارج فرصتهم الثمينة. توافدوا بلا انقطاع وأسهموا بلا هوادة في تغذية الصراع المحزن بين الأخوة. أسلحة ومخابرات وعملاء وضاعت نيجيريا. سالت الدماء وغطت الأنهار والغابات. ولم تتوقف الحرب البغيضة إلا في عام 1970. وفي منطقتنا منتصف ذلك العام التهبت الحرائق وغزتنا إسرائيل التي كانت لها قرون استشعار في أفريقيا واقتطعت أراضيَ من ثلاث دول عربية.

نيجيريا البلد الأفريقي العظيم. القصدير والبترول والذهب والخيرات. ثم التاريخ العريق. كانو والزوايا والتجار وانتشار الإسلام. وتقارب المسجد والكنيسة والمعبد نحو الله رغم كل المياه المتسربة تحت العشب.. نيجيريا كانت مثالا للتعايش بين الأشقاء مسيحيين ووثنيين ومسلمين. لكن الحرب في الداخل بين الأخوة تظل ملعونة على الدوام. تخرب وتدمر وتجعل المدن والقرى والنفوس والحضارة أثرا بعد عين.

وحين توقفت الحرب الأهلية لم يتوقف سيل الانقلابات. استقرار ثم انقلاب. هدوء يسبق الريح. وأخيرا مع استبعاد مواقف الآباء والقادة التاريخيين ونهوض المزيد من التخلف والشقاء وظواهر الفساد تندلع بوكو حرام وتدخل على حزام النار في المنطقة الجاهزة دوما لمزيد من الحرائق والانفلات.

نيجيريا كانت امتدادا للشمال مع ليبيا وجاراتها. عاش كثير من أهلها عندنا. وبالمقابل استقر بها العديد من الأسر الليبية: أبوحامد. الشكشوكي. حسنين. الثني. قنابه. بوباهية. اندير. الدبري وغيرهم. تواصل وتجارة وعلاقات متينة من الجوار. الزوايا السنوسية التقت مع رسالة المصلح دان فوديو. وكانت هذه الأسر بين البلدين أحسن السفراء في ربط التواصل والعلاقات.

في صيف 1959 زارنا الحاج أحمد وبلو. ثم في نوفمبر 1963 حضر إلى بلادنا في الزيارة الثانية. منح شهادة الأستاذية العالمية من الجامعة الإسلامية في البيضاء ثم الدكتوراه الفخرية في الفلسفة من الجامعة الليبية في بنغازي وأنعم عليه والوفد المصاحب الملك إدريس بأرفع الأوسمة. التواصل والسلام ونشر المحبة كان يميز أغلب العلاقات الليبية وشعبها مع الآخرين. لم تكن تسعى إلى خلق الفتن وبذر الشروخ وتنفيذ المخططات البعيدة. كان الهدوء والاطمئنان يسم هذه العلاقات بمشاهد ممتازة. التاريخ مع التاريخ. والجغرافيا مع الجغرافيا. والامتداد والمستقبل.

لم ينشر الليبيون نشاطهم فيما جاورهم بالعنف والحقد والدماء، وإنما أسسوا منارات للخير والتعليم والتجارة والمصاهرة. كان الليبيون على الدوام عنوانا لهذه المثل والقيم.

نحن لم نستفد من تجاربنا. نحن افتقدنا رؤية ومنهجا ورسالة في العلاقات مع الآخرين، وفيما بيننا كذلك!.