Atwasat

"نبوا دولة" لسان حال الليبيين

سالم العوكلي الثلاثاء 21 يناير 2020, 11:14 صباحا
سالم العوكلي

عبارة باهتة مكتوبة على أحد الجدران، كتبت فترة حراك فبراير، تقول: (ليبيا ديمقراطية). ومن فترة قال مدافع عن شرعية حكومة الوفاق في إحدى القنوات: نريد (ليبيا مدنية). وما لفت نظري أو سمعي في الحالتين أنه لا ذكر لمفردة (دولة)، وهي المفردة التي حرّم القذافي ذكرها طيلة حكمه لأنها تورطه في بناء مؤسسات، وتفعيل قوانين، وخضوع لمعايير تاريخية وسياسية، تشكل في مجملها خطرا على مشروعه المختزل في جغرافيا ونظام.

وأحل مفردة المجتمع بدل مفردة الدولة، وخزينة المجتمع بدل خزينة الدولة، وظل المجتمع الذي يزداد قهرا وفقرا كل يوم يحلم بالدولة، وحين عرض القذافي في مؤتمراته فكرة تقسيم الثروة على المجتمع، كان لأول مرة يرفض الناس ترشيدا من المرشد الأعلى ويطالبون بالدولة، ما اضطره أن يطرح في انعقاد المؤتمرات التالي مذكرة واحدة عنوانها "ماذا يريد الليبيون" ويقال أن الصادق النيهوم هو الذي اقترح عليه هذه الفكرة حين أخبره القذافي بأنه حار مع هذا الشعب الذي قدم له كل شي، قدم له السلطة والثروة والسلاح ولم يرضَ. فقال له النيهوم لماذا لا تطرح هذا السؤال على الليبيين في المؤتمرات الشعبية؟. وكان سؤالا مهما لكن إجابته الحقيقية لا يستطيع أحد البوح بها.

ومثلما كانت (ليبيا دكتاتورية) ولكن دون دولة طيلة العقود السابقة، أصبحت، بعد فبراير (ليبيا ديمقراطية) ولكن دون دولة، فكثير من مظاهر الديمقراطية كانت حاضرة (انتخابات صناديق اقتراع، منظمات مدنية، أحزاب، حرية تعبير ... إلخ) ولكن دون دستور أو مؤسسات أو قوانين تضبط ذلك ، ما جعلها تشبه تجربة (الديمقراطية المباشرة) في إقطاعية القذافي السابقة. وحين اعتمد المجلس الانتقالي اسم (دولة ليبيا) في مراسلاته وإعلانه الدستوري كان الأمر رد فعل ونكاية في النظام بسبب محوه لمفهوم الدولة.

لقد وضعنا ببراعة العربة أمام الحصان، وانخرطنا في العملية الديمقراطية بحماس عبر انتخابات في كل مكان وفي كل شأن، وحتى رؤساء الجامعات عينوا بالانتخابات رغم أن هذا لا يحدث حتى في الدول التي لها قرون تمارس الديمقراطية.

نبوا دولة. هذا لسان حال الليبيين منذ عقود طويلة، ومنذ أن جُمّد الدستور الملكي، ومنذ أن ظهرت النقاط الخمس التي من ضمنها الثورة الإدارية وتعطيل كافة القوانين السارية، ومنذ إعلان سلطة الشعب وبيانها الذي حول ليبيا إلى فوضى عارمة اسمها الجماهيرية، وزحام من الناس يحكمه مزاج فرد بقبضة أمنية، تبرأ مرارا من كونه رئيسا للدولة وهو مجرد ثوري يحمي الثورة وسلطة الشعب، وقائد أممي سينقذ العالم من الظلم، واستمرت مفردات مثل حماة الثورة، واللجان الثورية، والقائد الثائر تعمل طيلة أربعة عقود كبديل للدولة، وهي المفردات التي مازال يتاجر بها تيار الإسلام السياسي طيلة تسع سنوات أخرى بعد سقوط الثائر الأممي، فكل مؤسسة تظهر من أجل بناء الدولة يسمونها ثورة مضادة، وكل خطاب وطني يطالب بالدولة هو مؤامرة على ثوار فبراير، وحين سيطرت الجماعات الإرهابية على درنة سموهم الثوار المدافعين عن ثورة فبراير وأصبحنا نحن الخائفين على قطع أعناقنا متآمرين على ثورة فبراير.

خرجت مظاهرات في درنة هتافها الوحيد "لا سفيان ولا بونقطة... نبو جيش ونبوا شرطة" وهي مطالبة ضمنية بالدولة التي لا يمكن أن تقوم دون جيش ودون شرطة، وانتشر الشعار في مظاهرات كثيرة بعد أن استبد الخوف بالناس، وهذا المطلب ذكرني بقول (وزير العدل السابق) إبراهيم بكار للقذافي في مؤتمر الشعب العام: يا قايد الناس يطالبون بالبوليس وليس الشرطة فقط. حين كان القذافي يهرطق أمام المؤتمر حول إلغاء جهاز الشرطة واستبداله بالأمن الشعبي التناوبي. مثلما هرطق في مسألة الشعب المسلح والمقاومة الشعبية كبديل للجيش الرسمي، وللأسف هذه الهرطقات مازالت تدور في أذهان الكثيرين الذين يرفضون مؤسسات الجيش والأمن بحجة الخوف من حكم العسكر، مثل الذي يرفض الهواء خوفا من أن يتحول إلى عاصفة.

أنا مع الجيش والشرطة كأسس لبناء الدولة، دون أن يزايد علي أحد في توجهي نحو الدولة المدنية الديمقراطية الموثق في كتابات منشورة لي منذ أن وعيت هذا السؤال، ومنذ بدأت النشر في الثمانينات من القرن الماضي، منحازا فيما بعد بقوة لهذا المبدأ حين استوعبته أكثر عبر احتكاكي بأصدقائي المثقفين والكتاب الذين خرجوا من السجن وظل هذا الأمر ديدنهم .

أنا مع الدولة المدنية والديمقراطية حتى آخر قطرة من حبري أو دمي لا أعرف، لكني لم أذهب إلى الخيار العدمي المريح الذي يرفض الميليشيات ويرفض المؤسسة العسكرية في الوقت نفسه، وينتظر دولة مدنية تهبط من السماء، وذهبت إلى هذا الخيار لأني أدرك أن الجيش أساس بناء الدولة التي مازال المتضررون من وجودها يتحاشونها، وأن الطرف الثاني يسعى لبناء دولة مدنية تحكمها الميليشيات كما حدث ويحدث في لبنان والعراق التي ظهرت جماهيرها تطالب بإسقاط هذه النظم، وهي نظم دستورية تتداول فيها السلطة... إلخ بمظهر دولة مدنية فوق صندوق من البارود، تتحكم فيهم الميليشيات التي أصبحت ممثلة في السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بسبب ضعف جيوش لبنان والعراق التي لم تستطع احتكار القوة والسلاح حتى الآن.

فأن نسير نحو غايتنا في طريق تحيطها الأشباح أفضل من أن نسير نحو الهاوية في طريق تحفها الملائكة. مع إصراري على أن الدولة المدنية مصطلح سياسي ظهر ضد الدولة الدينية وليس العسكرية تحاشيا للخلط، فكم من دولة مدنية بناها عسكري ولا يذكر التاريخ دولة مدنية بناها شيخ أو فقيه أو مفتٍ أو حزب ديني.

في اللغة إذا غاب الموصوف أو ما ينوب عنه انمحت الصفة تلقائيا، لذلك دعونا ننشئ دولة أولا ومن ثم سنفكر في نعتها بما نريد، لكي ــ على الأقل ــ نبني جملة مفيدة.