Atwasat

فرنسا.. والمؤتمرات الضارّة

نورالدين خليفة النمر الأحد 19 يناير 2020, 01:21 مساء
نورالدين خليفة النمر

صرح الرئيس الفرنسي بأنه يدرس إمكانية مشاركته في مؤتمر برلين، مُعرباً عن رغبته في أن يكون اجتماعاً "مفيدًا"، بينما باريس هي التي افتتحت في مايو 2018 المؤتمرات الضارّة بالقضية الليبية وبسمعة فرنسا الدبلوماسية التي وسمتها بسبب هذا المؤتمر المتسرّع الارتجالية. إذ شخصنتها في مكونين: الأوّل والأساسي قائد مُسمىّ الجيش الليبي، وهو في حقيقته يقود بدون ضبط وربط مُركبا ميليشياويا من كتائب متنافرة أسوأها مكوّنا الإسلام السلفي وتابعه القبائلي مع نواة قوّة الصاعقة المتهالكة يرافقه رئيس البرلمان العاطل عن العمل في طبرق والمُعيق لأي عمل يخرج ليبيا من أزمتها. والثاني رئيس المجلس الرئاسي الواجهة التي يمكن قبولها من الغرب، الذي صار لامعنى له بانسحاب أعضائه منه، فلم يبق فيه إلا أعضاؤه المرتبطون بأجسام ميليشاوية منها الإسلاموي ومنها الجهوي. وتبعته رئيس المجلس الرئاسي، وهو مجرّد واجهة لمكوّن الأخوان المسلمين، الذي كان مهيمنا على حلفائه من تشكيلات الجهاديات المقاتلة في المؤتمر الوطني العام الذي أدخل الغرب الليبي في نفق الحرب الأهلية منذ عام 2014 بصراع فجر ليبيا إلى 2018 بهجوم كانيات ومُسمى جيش ترهونة السابع و الحرب على طرابلس بالجهويات والقبائليات الزبونية للنظام الدكتاتوري الساقط عام 2011 بمسمى قيادة الجيش الوطني 2019.

السؤال الذي ينطرح على ذهن السياسة هو ما الذي تريده فرنسا بالفعل من المؤتمرات حول ليبيا ومن لبيبا نفسها منذ عام 2011 إلى عام 2020 ؟ ولماذا هذه الازدواجية في مواقفها؟ نتتبع تاريخياً هذا المصير الفرنسي في ليبيا بدءاً بـ : قوات فرنسا الحرة التي حرّرت فزان بناءً على اتفاقية مع بريطانيا 1943من الاستعمار الإيطالي وتابعها رديف ليبي تقوده عائلة سيف النصر من قبيلة أولاد سليمان، وبسبب تحريرها تأخذ حصتها الوصاية على فزان في مشروع بيفن سفورزا الوصائي 1949 الذي أفشلته أمريكا باستقلال ليبيا تحت مظلة الأمم المتحدة عام 1951. بعدها من ديسمبر عام 1954 تخوض الحكومة الاتحادية الليبية الثانية مفاوضات صارمة بدعم أمريكي لإجلاء الوجود الفرنسي من فزان تتوج فى 26 ديسمبر1956 بالتوقيع الرسمي على اتفاقية الحدود بين البلدين التي تخرج فرنسا نهائياً من الجنوب الليبي. المفارقة أن ليبيا الملكية المحافظة تكون قاعدة لدعم الجبهة الراديكالية لتحرير الجزائر في نضالها للتحرر من الاستعمار الفرنسي. وتتعدى مؤازرتها بالتبرعات وتوفير الأرضية السياسية لحكومة جزائرية في المنفى، إلى الدعم المسلح أبرزه تمرير صفقة أسلحة مصرية 1954وصفقة سلاح من تركيا العضوة في الحلف الأطلسي لثوار الجزائر عام 1957. تعود العلاقات الليبية ـ الفرنسية الديغولية للانتعاش السياسي في أبريل عام 1968 بزيارة رئيس الحكومة الليبية لباريس.هذا التوّجه الأوروبي الفرنسي للملكية الليبية يتم إحباطه باستقالة رئيس الحكومة الذي مثل النخبة السياسية الشابة، ثم بانقلاب الجيش عام 1969، لتنفتح صفحة ليبية فرنسية جديدة بصفقة طائرات الميراج التي دخلت الخدمة في سلاح الطيران الليبي عام 1971 ثم تم تمريرها للمجهود الحربي المصري. واقتصادياً دخول شركات فرنسية أبرزها آكيتان في مجال النفط الليبي. هذا الانتعاش يعود إلى الانظفاء بتدخل الجيش الليبي في تشاد 1981. ثم يهدأ بهزيمة ليبيا ليتفاقم النزاع السياسي الليبي ـ الفرنسي بسبب إسقاط طائرة الركاب "أوتا" الفرنسية فوق أجواء النيجر العام 1989. وانفرجت العلاقة بتقديم تعويضات لذوي الضحايا في العام 2003. منذ 2004 شهدت العلاقة الليبية ـ الفرنسية حقبة متميزة انتهت بالتدخل الفرنسي إلى جانب الثوار الذين أسقطوا النظام الدكتاتوري عام 2011.

المصلحة الوطنية اقتراب من ثلاثة اقترابات تشكل البحث الرئيسي في مجال العلاقات الدولية والسياسة الخارجية، وهو تجلٍ واضحٌ للمدرسة الواقعية التي سيطرت على تحليل ودراسة هذه العلاقات والسياسات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، داحضة الاتجاه المثالي في دراسة العلاقات الدولية الذي سيطر في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وقيام عصبة الأمم التي اعتبرها البعض إرهاصات الحكومة العالمية التي طالما دعا إليها المثاليون. السؤال: ما هي المصلحة الوطنية الملموسة في الخيار السياسي والعسكري الفرنسي الحاسم؟ الذي تبناه ونفذّه الرئيس ساركوزي بالوقوف بجانب الثورة الليبية عام 2011، والخيار الذي اتخذته الحكومة الفرنسية بشكل موارب، بدعم هجوم مُسمى قائد الجيش في 4 أبريل 2019 على الحكومة في طرابلس التي تعترف فرنسا بمشروعيتها الدولية؟.

يتماهى الرئيس الفرنسي فيما يشبه المتلازمة وبراعة الفتى جوليان سوريل في رواية "الأسود والأحمر" للكاتب ستندال في التنقل بين اللونين بحسب حاجته وبحسب ما يظنه مفيداً له في سياسته الخارجية. جوليان سوريل نحسه الذي أودى به للمقصلة تمثل في تلاعبه باللونين الأحمر بثوب الرهبان والأسود بثوب جنود نابليون. ولنماهي الرئيس الفرنسي ماكرون به نجد بتحوير في الرمزية التلاعب ذاته بين الدبلوماسي والحربي. فمن يكتفي بمتابعة الأخبار المنتشرة في الإعلام بخصوص سياسة فرنسا في ليبيا لن يفهم فعليا طبيعة الدور الفرنسي في هذا البلد المنكوب بالتدخلات الخارجية ومصالح باريس الحقيقية. فماكرون يبدو تارة مع الجهود الأممية من أجل إيجاد حل سياسي للأزمة وتارة يؤكد دعمه لحكومة الوفاق ويستقبل رئيسها في العاصمة باريس ويبحث معه عن حل للأزمة. لكن فرنسا في الوقت نفسه من أبرز الدول الداعمة لقائد مُسمى الجيش الليبي. أي أن فرنسا ضد التصعيد لكنها تدعمه بطريقة ما، وهي تساند في نفس الوقت من يحاول تخفيف التصعيد! الشيء الواضح الوحيد هو أن فرنسا مهتمة جداً بليبيا ولن تقبل بأن لا يكون لها مستقبل في البلد الغني بالنفط.