Atwasat

ثرثرة على الثيمز

جمعة بوكليب الخميس 16 يناير 2020, 05:12 مساء
جمعة بوكليب

ما العلاقة يا ترى بين الحلاقين وأعضاء مجلس النواب البريطاني؟ سؤال قد يبدو غريباً، لكنه في الحقيقة واقعي جداً. فقد قرأتُ مؤخراً في تقرير إعلامي قصير، وفي زاوية من صحيفة يومية غير لافتة للنظر، أن هناك لجنة برلمانية هامشية تتعلق بحلاقة الشعر.

الأمر مثير للاهتمام، كما يقولون، خاصة أن اللجنة المذكورة تتأهب لتقديم محاضرة لأعضائها من النواب، من جميع الأحزاب، حول دور الحلاقين في التخفيف من الوحدة، وما تسببه لهم من آلام وأوجاع مرضية نفسياً.
الحقيقة أن أغلبية النواب، في تلك البقعة التاريخية، من لندن، على ضفات نهر الثيمز، المسماة قرية ويستمنستر، تواجدوا لتمثيل دوائرهم الانتخابية، من جميع أنحاء المملكة المتحدة وشمال أيرلندا. وهذا يعني أنهم مضطرون للإقامة في لندن، بعيداً عن عائلاتهم وأصدقائهم، وأحبتهم. أضف إلى ذلك، أن أجواء العمل البرلماني متعبة، وكثيرة، وتسبب للكثيرين منهم، خاصة النواب الجدد، أزمات نفسية صعبة ليس أقلها شعورهم بالوحدة، والغربة. وبالتالي، فإن المحاضرة التي تستعد اللجنة لتقديمها لأعضائها من النواب لا تزيد على محاولة لتذكيرهم بما للحلاقين من فوائد تتجاوز قص شعر الرؤوس واللحى. وحسب ما فهمت، شخصياً، فإن اللجنة تريد لمن يشعر بالوحدة من أعضائها الذهاب إلى صالون الحلاقة في مبنى البرلمان والانخراط في دردشة اجتماعية لمدة من الزمن بالثرثرة مع حلاق ثرثار.

الحقيقة الثانية هي أنني كنت على علم، من خلال زياراتي العديدة للمبنى، خلال السنوات الماضية، بوجود مطاعم وكافتيريا وحانة وغيرها من التسهيلات التي توفرها إدارة البرلمان للنواب وللعاملين معهم من الباحثين والموظفين وغيرهم وبأسعار مخفضة. لكني لم أكن أعلم بوجود صالون حلاقة خاص بالنواب وللعاملين معهم في المبنى.

الحقيقة الثالثة، هي أن الحلاقين على اختلاف جنسياتهم، وأعمارهم ثرثارون. وأنني، شخصياً، إن خُيرتُ، أفضّلُ زيارة عيادة طبيب أسنان لخلع ضرس أو أكثر على زيارة صالون حلاقة بحلاقين ثرثارين.
الحقيقة الرابعة هي أن ثرثرة الحلاقين في صالون الحلاقة الواقع في مبنى البرلمان على نهر الثيمز في قرية ويستمنستر، بوسط لندن، ثرثرة، كما ترى اللجنة، مفيدة صحياً، ووصفة طبية توصي بها أعضاءها من النواب بغرض تخفيف محنة شعورهم بالوحدة في ذلك الجزء من العالم الذي يشبه طاحونة بجعجعة وطحين.

الحقيقة الخامسة هي أن عديداً من النواب يبدون، مثلي، انزعاجا من ثرثرة الحلاقين ويتفادونها بأي ثمن، وإن لم يكن في المستطاع قطعها فعلى الأقل التقليل منها ما أمكن، خاصة كبار السن منهم، الذين بفعل عوامل الزمن، لم يعودوا، منذ وقت ليس قصيراً، يفتقدون تساقط شعر رؤوسهم، ويحرصون على إبداء الامتنان لما أصابهم من صلع مبكر أو متأخر.

الحقيقة السادسة هي أن نائبا برلمانياً راحلاً اسمه اينوك باول Enoch Powell كان من أعمدة حزب المحافظين، ومن أكثر رجاله تطرفاً في مسألة الهجرة إلى بريطانيا من بلدان الكومنولث، في فترة الستينيات، وألقى في يوم 20 أبريل 1968 خطاباً مشهوراً في المركز السياسي لحزب المحافظين بمدينة بيرمنغهام عرف في أدبيات البرلمان والسياسة البريطانية، بخطاب أنهار الدم، حذّر فيه حزبه من مغبة الاستمرار في تبني سياسة فتح الأبواب أمام المهاجرين من المستعمرات السابقة إلى بريطانيا، وتبني الحزب مشروع قانون بالهجرة لأنهما سيؤديان إلى جريان أنهار من الدم في بريطانيا، كما جرت، سابقاً، في نهر التيبر بروما – إيطاليا، في فترة تاريخية معينة.

ذلك الخطاب وضع نهاية لحياته السياسية، ولعضويته في حكومة الظل التي كان يترأسها السيد إدوارد هيث، ومن حزب المحافظين، وإن استمر وجوده نائبا في البرلمان ممثلاً عن أحد الأحزاب الاتحادية اليمنية في شمال أيرلندا لعدة سنوات أخرى.

الغريب أن السيد باول، المتوفي العام 1998، كان حريصاً، بقية حياته، كلما أشار في أحاديثه إلى ذلك الخطاب على وصفه بخطاب بيرمنغهام.

السيد باول شخصية خلافية، تشبه الكثير من الشخصيات التي عرفتها الساحة الليبية بعد انتفاضة فبراير 2011، ومعروف عنه بالتجهم، والغطرسة، والتعصب لآرائه، وحكى مرة لأصدقائه أنه يكره ثرثرة الحلاقين، وخاصة من كانوا يشغلون صالون الحلاقة في مبنى البرلمان، وأنه لدى إحدى الزيارات، سأله الحلاق عن الكيفية التي يريد بها قص شعر رأسه فرد عليه بتجهم: في صمت.

ويقال إنه منذ ذلك اليوم، كان السيد باول، حتى آخر أيامه في البرلمان، من ضمن أقلية صغيرة من النواب، يستمتع بحلاقة شعر رأسه دون أن يصاب بصداع من جراء ثرثرة حلاق في مبنى برلماني عتيق، بقرية ويستمنستر، على ضفة نهر الثيمز، يشبه طاحونة بجعجعة وطحين.