Atwasat

أمل في ليبيا

سالم الكبتي الأربعاء 15 يناير 2020, 01:38 مساء
سالم الكبتي

خطواته كانت معدودة. من شعراء العمر القصير الذين رحلوا مبكرا ولم يقدموا كل تجربتهم ومعاناتهم. المرض والموت العاجل وأسباب أخرى أدت بهم إلى المغادرة.

محمد أمل دنقل ابن الصعيد فتح عينيه في قنا عام 1940. وفي القاهرة صدمته المدينة بعد براءة القرية وعفوية الريف. قطع دراسته في كلية الآداب. وفي جمرك الإسكندرية اشتغل بضعة أعوام ثم في منظمة المؤتمر الأفريقي الآسيوي. كانت القاهرة قلب العروبة وأفريقيا وآسيا. ثم توقف النبض في القلبين. رحل الشاعر في 1983. ثلاثة وأربعون عاما بينهما خطوات معدودة ومقتل القمر والكعكة الحجرية التي قصد بها ميدان التحرير القديم ولا تصالح وغرفة المرض والصراع مع الخبيث.

وطوال مسيرته لم يعرف أحد أن بداياته الشعرية كانت في ليبيا!

في يونيو 1960. في قنا كتب قصيدته في مفكرته اليومية (أخناتون فوق الكرنك)

لكنه لم يتقدم لنشرها ذلك الوقت. ربما ظل يكتب لنفسه ولأصدقائه. وفي فبراير 1964 نشرت مجلة الإذاعة الليبية في بابها (مع الكتّاب الناشئين) قصيدة عنوانها (طفلتها) وقدمتها بقول المحرر وهو رجاء الجوهري: (اتصلت هذا الأسبوع بعدد كبير من رسائل السادة الكتّاب كانت منها رسالة للشاعر الناشئ محمد أمل دنقل مرفق بها قصيدة بعنوان طفلتها وقد أعجبنا بالقصيدة لما فيها من أسلوب رصين وتسلسل قصصي بالإضافة إلى جمال القافية وحسن اختيار الشاعر لها وتوفيقه في انتقاء الكلمات المعبرة عن أفكاره المتسلسلة في قصته موضوع القصيدة).

نشرت المجلة القصيدة على الصفحتين العشرين والحادية والعشرين. وكانت تقليدية على الوزن العمودي. انقطع أمل عن النشر بعد ذلك في ليبيا. وبعد فترة أصدر ديوانه مقتل القمر. وكانت القصيدة المذكورة ثاني القصائد التي احتواها الديوان. لكنه جعلها على وزن التفعيلة واستبدل التمهيد للقصيدة وكذا بعض الكلمات السابقة بأخرى جديدة تختلف عن السابقة. لكن المضمون لم يختلف.

وكما أشرت لم يشر أحد في مصر أو ربما في ليبيا بمن فيهم أمل دنقل إلى هذه الانطلاقة في مجلة ليبية اهتمت بالشاعر وقصيدته ورحبت به مفسحة رحابها وصفحاتها لتشجيعه وتقديمه للقراء. وذلك أمر حدث للكثير من المبدعين العرب الذين عاشوا أياما من عمرهم في ليبيا وربما خجلوا أو تخوفوا من الإشارة إلى ذلك في سيرهم وأحاديثهم ولقاءاتهم. كان الجميع يهرب منا كما لو أننا مصابون بالجرب!

وهذا في الواقع لا يشمل الغالبية. فثمة من استقر في العديد من المدن الليبية. معلما في مدارسها أو أستاذا في جامعتها أو عاملا في مؤسسات البلاد الخاصة والعامة لم يتوان أو يقصر في الكتابة عن تجربته في ليبيا والإشارة إلى ذلك بكل امتنان.. أو انتقاد مرير أيضا!

لم يقصر على سبيل المثال وليس التحديد: مجيد خدوري ومحمد فريد أبو حديد وأحمد مختار عمر وعبداللطيف البرغوثي وعلي محمد حمد وعبدالجليل الطاهر ويحيى حقي وعبدالرحمن بدوي وناصر الدين الأسد وسمير عطا الله وبكر عويضة وغيرهم من ذكر تلك الأيام التي عاشوها في ليبيا. وكثيرون أيضا على مختلف مستوياتهم كانوا قامات. وصلوا إلينا. وكتبوا عنا بإنصاف.. أو تجريح. لم يخف أحد منهم أو يخجل بأنه كان في بنغازي أو طرابلس أو البيضاء وسواهما من المدن والمناطق. وأفادت تلك المؤلفات والكتابات تاريخنا الثقافي والاجتماعي. وحتى من مروا بليبيا في زيارات عابرة أشادوا بها وبتلك الزيارات وبمعرفتهم بالكثير من الليبيين وعطائهم وإبداعهم.

مثل نزار قباني وعبدالوهاب البياتي الذي أعجبه عنوان مقال لخليفة الفاخري نشره في الحقيقة وهو عيون الكلاب الميتة فجعله عنوانا لأحد دواوينه.

نحن لم نكن واديا دون زرع. لكننا لم نحسن تقديم أنفسنا في كل الأحوال. وقد ظل البعض منا يتعلق بغيرنا وهو لا يستحق ذلك التعلق فلدينا من هو أفضل منه عطاء وفنا دون تعصب. لدينا تجربتنا حتى وإن ظل الكثيرون من خارج الحدود يتجاهلونها أو يتعمدون نسيانها. ومن لا يحسن تقديم شخصيته واحترامها يظل في أعين الآخرين مجرد سقط متاع.

وفي جانب آخر أسهم تراكم السنوات الصعبة الماضية في الإساءة إلينا عندما ظل من يصل إلينا أفواجا أو فرادى ممن لا قيمة له تذكر على المستوى الفكري أو الأخلاقي أو الإنساني. كانوا جوعى إلى النقود والصفقات والضحك علينا. لم يمروا بتاريخنا. لم يعرفوا تجربتنا. لم يدركوا معاناتنا. وجعل ذلك منا مجموعة معزولة فكريا وثقافيا يهرب الآخرون منا في كل الأوقات ولا يحبون ذكر أي شيء عنا. غطت السنوات الصعبة كل نبيل وجميل. ودفعنا الثمن وظللنا نتعلق بالتوافه الذين لا يعيروننا أي اهتمام عندما نكون في عواصمهم. ادعى كثير من أشباه المثقفين لدينا بأنهم على معرفة وإلمام بمن حولنا من أشباههم وكانت النتيجة صفرا على صفر!

أذكر أنه عندما تم افتتاح مكتبة الإسكندرية وهي لا شك من المعالم الحضارية ذات القيمة الثقافية والفكرية، اختير مجموعة من مفكري وأدباء الأمة العربية في هيئتها الاستشارية. ولم يكن بينهم ليبي واحد. وذلك كان عجيبا وغريبا. فمن أسس مكتبة الإسكندرية منذ بدايتها القديمة ابن قورينا كاليموخس القوريني. كانت قورينا ولبدة وقرطاجة والإسكندرية أكبر مدن العالم القديم. ومع ذلك حدث استثناء ليبيا التي كانت من وضع حجر الأساس العتيق للمكتبة. ومن يهن يسهل الهوان عليه. وحين سألت ذلك الوقت بطريقة أو بأخرى عن سبب ذلك، قيل بأن المكتبة تتفادى وجع الرأس وتخشى أن يمثل ليبيا أحد أعضاء اللجان الثورية أو المثابة العالمية!

يحاصر المثقف الليبي الشريف. ويظل الكثيرون من الأجيال العربية اللاحقة يجهلون عنا ما يستحق أن يكون موضع اهتمامهم وتقديرهم وحتى اختلافهم وانتقادهم لنا.
كان ثمة من يعرفنا جيدا ويقدرنا تماما. لكن العدد أضحى صغيرا وبسيطا. فماذا نفعل إذا كان أشقاؤنا وأخوتنا في (المصير) لا يريدون أن يكلفوا أنفسهم أو تدفعهم الأمانة والضمير إلى الإشارة إلينا وتذكر أيامهم في بلد اسمه.. ليبيا!