Atwasat

جبل السكر

سالم العوكلي الثلاثاء 14 يناير 2020, 01:28 مساء
سالم العوكلي

يسمى عالم الإنترنت، أو مجال السوشيال ميديا، بالواقع الافتراضي في محاولة تمييزه عن واقعنا المعاش، لكن ثمة روابط أو تماثلات بين الواقعين، من ضمنها مفردة الصداقة التي يعبر عنها إلكترونيا بالإضافة إلى قائمتك من الأصدقاء، حيث يمكن أن ترتبط بصداقات قوية في الفيس بوك مثلا تتحول إلى الواقع المعاش، ومن الممكن أن تنشأ عداوة أيضا وتتحول إلى كدمات على الوجه في الواقع المعاش، وحدثت حالات زواج كثيرة عن طريق الفيس بوك ترتب عنها عدد غير قليل من الأطفال. عادة يوجه سؤال لزوجين بعد زمن طويل من زواجهما: كيف تعارفتما؟ أو كيف التقيتما؟ وتكون الإجابات مختلفة: في الجامعة مثلا أو في العمل أو في رحلة طائرة... إلخ. والآن تضاف إجابة: تعارفنا في الفيس بوك (الواقع الافتراضي) الذي تحول إلى عرس وذبائح ومعازيم، وأحيانا إطلاق رصاص احتفالي أو قذائف آ ربي جي.

هذا لم يمنع في الماضي علاقات حب تمخض عنها حالات زواج نشأت مصادفة عن طريق التلفون الأرضي، أو عن طريق هواة المراسلة في الصفحات الأخيرة من بعض الدوريات. يحدث أن يعيش شخص قصة حب مع رجل تنكر في هوية أنثى، ليس من باب أيديولوجيا المثلية، ولكن لولع البعض بالمقالب أو بالدسائس، أو أي شيء آخر، وحدثت مثل هذه المقالب أيضا في الهاتف الأرضي وفي صفحات هواية المراسلة، لكن يصعب حدوثه في الواقع المعاش حيث المواجهة وجها لوجه، وإن حدث، ذات مرة، أن ارتدى أحد هواة المقالب فراشية وجوربا وحذاء نسائيين، ونظرا لما يتمتع به من قوام رشيق وجمال ساقين تعرض لتحرش ومعاكسات كثيرة في الشارع، بعضها من أصدقاء يعرفهم جيدا، ويعرف مدى ما كانوا يظهرونه من امتعاض من هؤلاء الذين يتحرشون بالفتيات في الشارع، حين تنتابهم حالات من التطهر الأخلاقي عبر تأثيم ما يفعلونه عبر إسقاطه على الآخرين وازدرائه، وهذا نوع من التطهر متفشٍ في قطاعات اجتماعية واسعة تهاجم أحيانا مجازا شعريا أيروتيكا وهي ترتكب كل الفظائع في الواقع.

حين بدأت كتابة هذا الهذيان، كنت أريده سطورا قليلة أنشرها لإجابة سؤال: بِمَ تفكر؟. حول خاصية الحظر في الفيس بوك، لكن شجون الحديث طالت فاستهواني أن أحولها إلى مقالة عن الفانتازيا التي غادرت الخيال العلمي وشطحات الفن صوب حياتنا اليومية.

قبل الحديث عن خاصية الحظر أتوقف قليلا عند السؤال الإلكتروني الملح: بِمَ تفكر؟ وهو سؤال يوجهه الواقع الافتراضي وإن كان ومازال موجودا في الواقع المعاش الذي أصبح يترك المساحة للواقع الافتراضي، فحين تسرح أمام صديق أو أمام زوجتك فالسؤال التلقائي هو: بِمَ تفكر؟، وفي جوهره سؤال فضولي متلصص على الخصوصية، الخصوصية التي تشكل قلق مديري المواقع الاجتماعية ويحاولون تطويرها كل يوم، وفي الواقعين، المعاش والافتراضي، تغدو الإجابة عن هذا السؤال صعبة. فقد يكون ما تفكر به في تلك اللحظة شريرا أو مزعجا لمن وجه لك السؤال، كأنْ كنت تفكر مثلا في خنقه لأنه يثرثر في أمور لا تعنيك، أو تفكر في خيانة افتراضية لزوجتك في لحظة توجيه السؤال. السرحان قرب الآخرين موضع قلق وأحيانا اتهام، لكن سؤال الفيس بوك، بقدر ما فيه من تلصص وفضول، يسعى لمشاركة فكرتك مع الكثيرين من متابعيك وأصدقائك، وغير أصدقائك إذا كانت إجراءات خصوصيتك غير متزمتة. فأنت وحدك وسط حشد من المتابعين، وهذا ما يؤدي بالبعض إلى ارتداء قناع عبر اسم فيسبوكي وصورة غامضة ومعلومات شخصية مغلوطة من أجل أن يجيب عن سؤال: بِمَ تفكر؟ بأكبر قدر من الصدق، ولا يهمه إن أزعج الآخرين أو انصب عليه سيل من الشتائم لأن من كتب المنشور ليس هو رغم أنه عبر عنه هو. وعادة ما تسبب مثل هذه الحالات من الإزعاج خيار الحظر. فهل هذا الخيار الافتراضي موجود في الواقع المعاش؟

حين تنوي حظر أحد من رواد الفيسبوك يظهر عندك هذا التنبيه "عند حظر أحدهم، لن يتمكن هذا الشخص من رؤية المحتوى الذي تنشره في يومياتك أو الإشارة إليك أو دعوتك إلى مناسبات أو مجموعات أو بدء محادثة معك أو إضافتك كصديق." بمعنى أنه لن تلتقي أبدا بهذا الشخص مرة أخرى في أرض الفيسبوك الشاسعة أو في شوارعه وحواريه الممتدة على مساحة الكوكب، وهذا لا يقابله في الواقع المعاش سوى خيار القتل، وبالتالي حين تحظر شخصا فأنت قتلته رمزيا في الواقع المعاش وقتلته إلكترونيا في الواقع الافتراضي، وعدم وجود جثة لا يعني أن جريمة القتل لم تُرتكب. قد يقول شخص أنه مازال حيا ومن الممكن أن يدخل عليك من حساب آخر باسم آخر وتوافق على إضافته إلى قائمتك، وهذا صحيح لكن في هذه الحالة ندخل افتراضيا في عالم الأشباح وحكاياتها، وكثير من الحكايات تتحدث عن القاتل الذي يلاحقه شبح الضحية وينكد عليه عيشته، ما جعل البعض يعتذر عن إضافة من لا يبرزون هوياتهم الحقيقية لأنه لا يصادق الأشباح. وإذا ما اعتبرنا عالم الأشباح خياليا فهو يقع في منطقة الواقع الافتراضي ويوما بعد يوم تضيق المساحة بين الواقعين أو يتراجع الواقع المعاش لصالح الواقع الافتراضي لأن الواقع الافتراضي أصبح واقعا معاشا فعلا. وأعتذر عن التكرار اللاهروب منه، وأعترف أني ارتكبت عدة جرائم قتل رمزية أو إلكترونية مع بعض المزعجين أو المزعجات، وعندما فتحت مرة قائمة المحظورين أحسست أني أحدق في مقبرة جماعية، وأحسست أني قاتل متسلسل، فتوقفت تماما عن الحظر، وصرت اكتفي بإلغاء الصداقة لأنه شيء معتاد كان يحدث في الواقع المعاش الذي اندمج أو ذاب في الواقع الافتراضي مثلما يذوب السكر في الماء العذب (هذه الاستعارة جاءتني من لقب مؤسس موقع الفيسبوك، زاكربيرغ، التي يعني في الألمانية: جبل السكر).

الانزياح من الأعلى للأسفل ابتكار فلسفي قديم بدأ يتحقق حتى في أكثر المجتمعات تخلفا، كان الراحل في الصحراء أو البحر يحدق إلى النجوم في الأعلى كي يعرف الاتجاهات، والآن أصبح يحدق إلى الأسفل في جهاز بحجم كفه كي يعرف موقع قدمه والاتجاهات، عندما حلت الأقمار الصناعية الأكثر دقة بدل النجوم (ربما بدأ هذا الانزياح مع البوصلة التي في حجم ساعة اليد، لكنها لم تكن قادرة على تحديد مكانك الدقيق في هذا الكوكب ولم تُغنِ عن التحديق في النجوم). وفي المحصلة تتحول الموبيلات الأنيقة إلى لعب في يد الجميع، ونحن لا نتوقف عن اللعب حين نكبر، ولكن نكبر حين نتوقف عن اللعب.