Atwasat

اللامبالاة الإيطالية

نورالدين خليفة النمر الأحد 12 يناير 2020, 02:04 مساء
نورالدين خليفة النمر

أدركتُ الإيطاليين في طرابلس طفلاً، من عام 1956 إلى حين إجلائهم سنة 1970، وارتبطت عائلتي بوشائج الجيرة مع بعض العائلات وعاشرتهم، وعملت صبياً معهم بورشهم في عُطل الصيف المدرسية وعشت بما سُمحَ لي بعض أجوائهم. لكن الجالية الإيطالية، التي بعد هزيمة الحرب العالمية الثانية انتفت منها طبيعة المستعمر، وشملتها قوانين المواطنة ابتُني بين أفرادها وبين الوطنيين الليبيين جدار لامرئي بما يمكن أن أسميه اللامبالاة من الجانبين الليبي والإيطالي. وعندما تفتحت مداركنا كوننا من جيل الاستقلال على عالم الثقافة، كان التأثير الأنجلوسكسوني البريطاني ـ الأمريكي ما بعد الاستعمار، غالباً على التأثير اللاتيني، والإيطالي بالذات، وكأن الطليان لم يستعمرونا، ولا تتغلغل جاليتهم في حياتنا. بل انقطعنا عن ثقافتهم، وحتى عن الجيل الليبي الذي أدرك شبابه الحقبة الاستعمارية في نهاياتها وأتاحت له ظروفه العائلية والحياتية، تلقي معارفهم المدرسية، وإلى حدٍّ ما أساليب حياتهم الثقافية.

يلاحظ أنجيلو ديل بوكا في كتابه "الإيطاليون في ليبيا" أن خمس عشرة سنة من السلام المتصل قد أزالت الكثير من أسباب الاحتكاك، كما أن إجراءات التعاون بين العرب والإيطاليين تبدو أنها كانت أكثر تقدّما في طرابلس إبّان ولاية الحاكم إيتالو بالبو منها في برقة" ويستشهد بما رواه له الموسوعي فؤاد الكعبازي الذي كتب شعراً بالإيطالية. من أن وطنيتهم رغم هذه المثاقفة ما انطفأت بل تمّت تغذيتها من نفس الوطنية الإيطالية، وعندما يمجّد أساتذتهم في مدرسة الإخوان المسيحيين شخصيتي قاريبالدي وبوكسيو تنصرف أذهانهم آليا نحو الأدبيات المتعلقة بجهاد عمر المختار واستشهاده. غير أن التزامهم السياسي ينتهي للأسف عند هذا الحدّ. فلم تكن هناك إرادة تصوغ وطنيتهم

ولد الكعبازي عام 1920 وفي عام 1929 يُصدر الكاتب الإيطالي البيرتو مورافيا روايته الأولى "زمن اللامبالاة"، وفي هذه الرواية هاجم الطبقة الوسطى الإيطالية بشدة وانتقد أنانيتها وقبولها السلبي للحكم الفاشي في البلاد. و ظل عداؤه للبرجوازية الإيطالية ملمحاً أساسياُ في كل رواياته حتى وفاته 1990، ولكني لم أقرأ عن اهتمامٍ إيطالي ثقافي بالمستعمرة الليبية، قارب الاهتمام الفرنسي في نموذج كتابات البير كامو، وأنه بشكل ما طال الامتداد الكولونيالي في طرابلس الليبية وإقليمها الذي ظل الوجود البشري الطلياني فيه حتى خريف عام 1970 منتفية عنه أغلب السمات الاستعمارية الجارحة التي ظلت تصبغ وجود الفرنسيين حتى استقلال الجزائر عنهم عام 1962

كان كُره الأمير إدريس لإيطاليا شخصياً وواضحاً، وعندما أسس بمعونة البريطانين

إمارة برقة 1 مارس 1949، حتي 24 ديسمبر 1951 تعجّل في تصفية وجودهم المدني الممثل في جاليتهم، وهو ما لم يستطعه عندما صار ملكاً عام 1951 في إقليم طرابلس حيث كان الوجود الإيطالي طاغياً في الحياة الاقتصادية قبل اكتشاف النفط وتصدير الشحنات الأولى منه بداية ستينيات القرن الـ 20. وتعبيراً عن التزامه ببند ضمان حقوق الجاليات، ومنها الإيطالية، ترك للحكومات التي تميزت نخبتها الأولى بالارتباط التعليمي بإيطاليا، تصريف شئون العلاقة بالجالية وبإيطاليا بالطريقة التي تخدم مصالح البلدين. ولكن الضباط الذين قاموا بالانقلاب على الملكية 1.سبتمبر 1969. تأثراً بتجربة الإجلاء المصرية 1952 للوجود العسكري الإنجليزي وامتدادها العروبي، قاموا سريعاً بداية عام 1970 بتصفية القاعدتين البريطانية في طبرق والأمريكية في طرابلس. لقد عاصرتُ مفاوضات الجلاء الليبية ـ البريطانية، والأمريكية، واعياً بالأجواء التي أحاطت بها، فقد تعاطف مع التأجيج الديماغوجي، أبناء تخوم مدينة طرابلس وريفها وبعض من شباب المدينة، الذي أدلجته القومجيات التي تبثها إذاعة صوت العرب من القاهرة الستينية، المهزومة أمام إسرائيل عام 1967، والذين أنستهم الحماسة أن القاعدة الأمريكية "ويلس" كانت مصدر العمل والارتزاق الأول وورشة التدريب التي امتصت عطالة آبائهم. الإجلاء الثالث طال الأقلية الإيطالية وهو ما أسماه ضباط انقلاب سبتمبر 1969 في 7 أكتوبر 1970، بيوم الثأر من جيلين من أبناء إيطاليا اضطروا لحمل وزر أجدادهم المستعمرين. رغم صيرورتهم مع الزمن بالولادة والعمل المنتج ليبين. ولهذا السبب لم يأبه المواطنون الليبيون لهذا الإجلاء الذي لم يعد له منطق مبرّر. المُستغرب أسلوب منطق الصفقة الذي تعاملت به حكومة آلدومورو 1970، والحكومات الإيطالية التي أتت بعدها مع الإجراء الليبي للحُكام العسكريين الجدد، فلم تأبه لمصير إيطالييها في ليبيا. فمنذ أواخر ستينات القرن العشرين، وحتى أواخر ثمانينياته دخلت إيطاليا في أزمة اقتصادية صعبة، فاقمها إرهاب سنوات الرصاص. وكان تولّي الشخص الثاني في التنظيم الانقلابي مقاليد رئاسة الحكومة 16 يوليو 1972 بمثابة فتح آفاق لعلاقة اقتصادية متينة بين ليبيا وإيطاليا نشهد حتى اليوم متانة عُراها. وكان فصل التتويج الأخير في التمثيلية معاهدة الصداقة بين إيطاليا وليبيا الموقعة في العام 2008 بين دكتاتور ليبيا ورئيس الحكومة الإيطالية السابق سيلفيو برلسكوني بما يمكن تسميته بتصفية إرث الاستعمار والاعتذار عنه. وفتح صفحة جديدة للتعاون الليبي الإيطالي. ولكن الصفقة الخاتمة التي أرست دعائمها الديماغوجية والمصالحية النفعية، لم تكشف كما بيّنت ذلك في مقالتي بالوسط 06 أغسطس 2015 "لوّبا كابيتولينا... تفكيك خطاب مابعدالاستعمار": التقصير المتعمّد والتجاهل المعيب من قبل إيطاليا الدولة الأوروبيّة العريقة في الحضارة والثقافة، وإنكارها للحقائق المؤسفة لتاريخها الاستعماري في ليبيا، كالمنافي في الجزر الموبوءة، والترحيل والمعتقلات الجماعية، و الإبادة المبرمجة، وإبقائها على ما أسمته الكاتبةStefania Del Monte بسياسة"المراقبة والحظر" censorship بعد سبعة عقود من زوال سيطرة الديكتاتوريّة الفاشيّة، ما شكّل غيابا شبه كامل لمناقشة مسألة "ما بعد الاستعمار" من طرف المؤسسة السياسية والبحثية بهدف معرفة الكيفية التي مُثلت بها الذاكرة الاستعماريّة في كل من إيطاليا وليبيا لأجيال ما بعد حقبة الاستعمار، وكيف استخدمت وأعيد تفسيرها ومرحلتها staging من خلال رؤى متقصّدة ليس فقط للتأثير في الجمهور والطبقة المتعلمة من الشعبين بل أيضا التلاعب السلبي بعقلهما الجمعي.

يصور مورافيا في روايته "زمن اللامبالاة "الأشخاص الذين يسيئون معاملة الآخرين كوسيلة لإرضاء الذات بتقدير متوّهم لدى الساسة. هذا التصرّف يسبب الأزمات الدبلوماسية بين الدول. كالأزمة التي كشفها تملص رئيس حكومة الوفاق الشرعية في العاصمة طرابلس من دعوة رئيس الحكومة الإيطالية له للالتقاء به في روما أثناء مروره وهو في طريق عودته من بروكسل دون إبلاغه بوجود عدوه اللدود قائد مسمى الجيش الليبي الذي يشن هجوماً على طرابلس منذ 4 أبريل 2019 والذي توجَه بمذبحة الكلية العسكرية بطرابلس في الغارة التي طالت طلاباً حولت جثث 32 منهم في لحظة إلى أشلاء نفذتها طائرة مسيرة رجح المندوب الأممي في ليبيا أن تكون نفذتها دولة تدعم مسمى الجيش الوطني الليبي. لقد وُصف التصرّف الحكومي الإيطالي بغير اللائق من قبل رئيسة كتلة حزب "فورتسا إيتاليا" المعارض بمجلس الشيوخ الإيطالي وترجعه إما إلى المغالاة بالمكانة التي توّهمتها إيطاليا عن ترتيبات مؤتمر برلين المرتقب بما فهمته أنها الوسيط الدولي الأساسي في القضية الليبية، أو أن الساسة الإيطاليين مجرد هواة غير مبالين بمشاعر الطرابلسيين وعائلات الضحايا المنكوبين، وأشارت إلى أن كلا الأمرين مدمران، في خضم أزمة دولية بهذا الحجم.