Atwasat

البيت البعيد

سالم الكبتي الأربعاء 08 يناير 2020, 01:23 مساء
سالم الكبتي

الغريب اللاجئ في بنغازي. لكنه لم يشعر بالغربة أبدا فيها. أتاها من الديار التي سلبت. كانت الولادة والنشأة في إحدى القرى قرب حيفا. عين غزال ومزارعها ومطاميرها ومعالمها وناسها. الجامع الوحيد كان بلا مئذنة. وعند اقتراب المغرب في رمضان يصعد المؤذن إلى سطحه. ينظر إلى الشمس التي غابت في البحر. فيؤذن ويسمع صوته الجميع.

عين غزال هذه كانت قريته وكذا قرية الدكتور إحسان عباس العالم والناقد والمحقق الذي أنجز أعمالا مختلفة عن تاريخ ليبيا وسيرتها في الجغرافيا والرحلات مع زميله د. محمد نجم. لكن القرية محتها من الوجود معاول الهدم والحقد التي احتلت الديار عام 1948. اختفت عين غزال.

لم يكن ذلك اللاجئ يشعر بالغربة أو بالوحشة في بنغازي. ظلت تذكره بالتي اختفت تماما. عائلات وأسر من هناك استقرت وطاب لها المقام في بنغازي: القدوة وطوقان وخماش والجراح والخطيب والسعدي والحوراني واللبابيدي والصمد وريان وعطايا والحلحولي والأزهري وعرفات وعويضة.. والكثير. عاشوا في المدينة مع الليبيين سواء بسواء وكانت القضية تنهض في الصدور على الدوام. عملوا وعلموا وأسهموا في النهضة الليبية التي بدأت تنطلق وشارك فيها الجميع. صاروا مثل المواطنين الآخرين في بنغازي. تآلف ومودة وجيرة لم يغيرها مرور الأيام.

أشياء جميلة فيما ظل حنين العودة إلى (حينا) يخبر به العندليب كل يوم ويعد به عبر انثيال صوت فيروز الوقور غداة لقاء في منحنى بعيد.. بعيد!

تخرج في الأزهر بكلية اللغة العربية في الأربعينيات الماضية. القاهرة تمور وتموج عند ضفاف النيل بالأحداث. الصحف والأحزاب والمقاهي والسياسة والفكر والمظاهرات التي تتحدى الإنجليز. استقلال تام أو موت زؤام. الهتافات العالية تتردد بين جنبات الشوارع والحواري. والقطار الذي يغادر من باب الحديد إلى غزة حاملا الناس والأشواق والأخبار والرسائل والبضائع.

ثم يأتي معلما في بنغازي بمعهد المعلمين أولا. ومع زملائه من الديار يواصلون لاحقا الرسالة والمهنة في العويلية. الجبل. نطع المرج والسهوب والسنابل والخيرات. والطلبة يدرسون ويتعلمون منهم على أرض الواقع تلك الأعوام. الدفعات الأولى في المدرسة الزراعية: بشير جودة وعبدالسلام الشيخي وموسى أحمد ومحمد الفيتوري فرج وغيرهم.

ويستقر بعدها قاسم محمد حماد في بنغازي. يقطن في البركة. يعاصر انطلاق صحيفة الحقيقة. المدرسة الرائدة في الصحافة الليبية الحديثة. من أول عدد في مارس 1964 إلى آخر عدد في يناير 1972. الإلغاء والإيقاف بحكم المحكمة المعروفة. كان قاسم حماد بهجة الحقيقة وبهاء أيامها. الأب والسكرتير والمصحح والمدقق. إلمامه باللغة وشواردها وتفاصيلها شيء امتاز به. نقاشاته وتواضعه وابتسامته علامات فارقة في تعامله جعلته قريبا من الجميع. كتابا ومراسلين ومحررين وعمالا ينقرون بأصابعهم الحروف بحبر المطبعة. لم يرزقه الله بأبناء لكن الجميع ظلوا أبناءه دون فرق.

قاسم حماد. المهنة. السهر مع الأوراق والبروفات والأحبار والمطابع وسطور الصحف والأخبار. واصل الرحلة بلا تعب أو شكوى. في مؤسسة الصحافة في طرابلس بعد تأميم الصحف الخاصة. كان أكبر من الآلام والشعور بالغربة وظل في صورته الوقورة وحكاياته المحببة وخبرته ومحبته كما هو إنسانا ومهنيا. كان معلما في المعهد والمدرسة.

ولغويا ومعلما آخر في الصحافة. أكسبته الأيام تجربة صحفية عرف من خلالها ماذا يريد القارئ كل صباح. قاسم حماد صورة جميلة لحلم العودة إلى الديار الذي لم يتحقق وظل في الخاطر والقلب. رحل ونام تحت ثرى ليبيا بعيدا عن فلسطين والقرية التي اختفت. ثم لحقته خديجة الإنسانة والزوجة الطيبة. عين غزال اختفت. وإحساس العودة ظل معلقا.

زادت الشروخ. زاد التمزق والضياع. ارتفعت الخطب والهتافات والوعود بلا جدوى. صار الوطن العربي نفسه يحتاج إلى تحرير متواصل من أعداء الداخل وظل الحزن في عيون اللاجئين. والحلم بالرجوع إلى (حينا) كما تقول فيروز وأخبرها العندليب وفقا لشعر هارون هاشم رشيد بات من المستحيلات في هذا الزمن الذي لا يسمع غناء العنادل ولا يهزه الطرب. الصوت الأقوى للسلاح والإرهاب والدم.

.. ويا أيها الليبطيني (الليبي الفلسطيني) قاسم محمد حماد عليك السلام بعيدا عن الديار التي لم تحررها البطولات التي لم تقتل ذبابة.. أو بعوضة أيضا!!