Atwasat

المبني للمجهول والرقيب الداخلي!

صالح الحاراتي الثلاثاء 07 يناير 2020, 08:03 مساء
صالح الحاراتي

حدثني صديق عزيز عن ملاحظة وأتبعها بسؤال: لماذا نرى إفراطنا في استخدام الجمل المبنية للمجهول، رغم أننا نعلم تمام العلم بالفاعل؟!

من المعلوم أن الأفعال تنقسم إلى مبني للمجهول ومبني للمعلوم، الثاني هو ما علم فاعله وذكر في الكلام، والمبني للمجهول هو كل فعل لم يعلم فاعله، أي مجهول.

هناك من يقول إن المبني للمجهول أحد أسرار البلاغة، وهناك من يقول إن حذف الفاعل من الجملة ربما لدواع يقتضيها المقام، بعضها لفظي، كالرغبة في الاختصار، وكالمماثلة بين حركات الحروف الأخيرة في السجع، وبعضها معنوي كالجهل بالفاعل أو الخوف منه أو عليه.

الأمر يبدو لي بسبب عوامل كثيرة وإن كنت أحسب أن «الخوف» يأتي من أهم الأسباب.. الخوف الذي جعل إنساننا أسيرا لقوة خفية تضبط منظومته الفكرية وتحد من حريته في البوح بما يراه ويعتقده، بحيث يصبح فريسة لمجسات تمتد في عقله، محذرة إياه من سوء المآل، حتى وصل الحال إلى أن وجدنا أقلاما معروفة سرعان ما تراجعت عن معتقداتها أمام ضغوط الواقع، وصارت تتاجر برخيص مواضيع أو قميء أفكار.

قرأت لـ«أحدهم» عبر صفحته الخاصة على أحد مواقع التواصل الاجتماعي رسالة إلى «مجهول»، متوعدا بالرد على أي إساءة وجهت إليه في الوقت المناسب.

الراسل اسم افتراضي مجهول والمرسل إليه أيضا مجهول!

يا ترى ما سبب هذا الغموض؟

ربما بغياب الحرية وانعدام الشفافية والمكاشفة تتضاءل أو تنعدم المعلومات، فيكثر استعمال «المبني للمجهول»! وعندما تنعدم الحريات يزداد الخوف من السلطة الباطشة ويتضخم حجم «الرقيب الداخلي» ويلجأ الناس إلى «المبني للمجهول»! فنقول مثلا إننا نحذر الفاسدين ومغتصبي المال العام! وإننا نستنكر ما يقوم به «أولئك» من اعتقالات.. إلخ، دون أن نشير إلى الفاعل الذي نعلمه.

يمكننا القول بشكل عام.. عندما يسود المجتمع الخوف من سوء المآل، نلجأ إلى «المبني للمجهول» من باب الحرص وتجنب الأذى.. أو ربما عندما تغيب عنا الحقائق ونتكلم مدعين المعرفة نلجأ للمبني للمجهول من باب التغطية على عجزنا.

ولذلك يجب أن نؤكد أن الخوف من السلطة الباغية ليس هو السبب الوحيد لهكذا حال، فأحيانا هناك من يريد ممارسة الكذب والدعاية والبروباغندا فيتجه للمبني للمجهول.. قالت وكالات.. علمت مصادرنا، قال شهود.. صرح مسؤولون.. وهكذا.

ولا يغيب عنا سبب مهم آخر، وهو دور المحددات الدينية التي ألبست ثوب القداسة ولا يمكن الاقتراب منها «المسكوت عنه».

من كل ذلك تبدو صلة القربى بين استخدام «المبني للمجهول» وتغول الرقيب الداخلي أو ما يمكن وصفه بـ«القرين المعطل»!

أن تكون حرا معناه أن لا يراودك الخوف حين تعبر عن نفسك، فالحرية هي أن تشعر بالأمان من العقاب، لأنك لديك رأي في موضوع معين، حيث من الملاحظ أن حياة الإنسان في مجتمع الحريات تمضي دون أن يفكر أو ينتابه الخوف من إبداء رأيه مهما كان مخالفا للسلطة القائمة، بينما في مجتمعات أخرى، تلك التي يضرب الاستبداد فيها أطنابه منذ عقود وقرون، لا يستطيع الإنسان فيها أن يشعر بالأمان على سلامته، وينتابه الخوف الوجودي متناسبا في شدته مع حجم القهر والقمع الممارس عليه، وعند تلك الحالة يتضخم في النفس «الرقيب الذاتي»، ذلك الكائن اللا مرئي، الذي يوجد عندما نبادر أو نبغي تحرير أنفسنا قولا أو كتابة فيكون عائقا ومعرقلا، ويقوم بدور «القرين المعطل» للإنسان الذي لا يكل أو يمل من تشتيت كل رأي يراد البوح به.. ويجعل من النفس البشرية أسيرة مقيدة.

الرقيب الداخلي يمتلك جهاز مراقبة تفوق دقته أدق الأجهزة الحديثة، يخنق المبادرة، ولا يدع أدنى فرصة لفكر يريد أن يتوالد علنا، قرين يتولى «إكراها» توجيهنا، ويستفرد بمشاعرنا، ويوجد أينما نكون في يقظتنا المرتبكة ونومنا القلق، ولا تأتي هواجسنا إلا منه، ولا يمر أمل من دون أن يبدده، إنه قرين فوق كل احتمال.

يبدو أن أكثر المتضررين هم الحالمون أصحاب الآمال العريضة، الحالمون بحياة بلا تعقيد، حياة حرة يمارس فيها اللسان والعقل حريته بلا قيود وتابوهات.

ولكن للأسف وفي خضم الصراع والتكالب على السلطة القائم، يقوم الإعلام الفاجر وصانعوه ببث خطاب الكراهية الذي له الأثر المهم في «استنبات وتغول»، ذلك الرقيب الداخلي لدى المواطن حتى يمتنع كل ذي رأي حر عن البوح بما يراه صوابا، وبذلك تخلو الساحة، ولا يسمع الناس أو يقرؤون إلا ما يراه أطراف الصراع.

يقول البعض من أهل الكتابة إنهم قتلوا ذلك الرقيب من خلال اللجوء إلى الرمزية أو بالنكتة وأسلوب السخرية، ولكن حين نستطلع إنتاجهم نجد آثار ذلك الرقيب ونجد ذلك الإفراط في «المبني للمجهول»، مما يؤكد أن اللجوء إلى الترميز لم يجد في الهروب أو عبور حواجز رقيب الداخل العنيد.

نعم لقد انقرضت سلطة باغية ولكن لم يرحل مريدوها، وتوالدت سلطات بديلة مارست نفس أساليبه، بحيث تم إحياء الرقيب الداخلي وظل الواحد منا يلعن القهر بالمبني للمجهول، ولم نستطع بعد إحالة هذا الرقيب إلى التقاعد، رغم إيماننا بأن رحيله يحرر ضمائرنا، ووجوده يفتك بما نحمل من أحلام.