Atwasat

تايم لكل «بارادايم»

سالم العوكلي الثلاثاء 07 يناير 2020, 01:54 مساء
سالم العوكلي

تعاني معظم التحليلات والكتابات، والنظرة إلى الأحداث الراهنة وتقييمها، والكيفية التي تتطور بها، حالة اجترار للغة ولمفاهيم قديمة لم تتناغم مع الثورات الجذرية التي حدثت في الحقول المعرفية التي تخدم هذه التغيرات، وأخص العلوم المتعلقة بالتاريخ والسياسة وما يتخللها من خطابات لاهوتية لأني معني بها في هذا الإيجاز، وتسمى حالة الخضوع لهذه المصادر المعرفية واللغوية التقليدية أو القوالب المسبقة للتفكير، «بارادايم»، بمعنى: النموذج أو المثال أو القياس الذي نسحب عليه تصوراتنا الراهنة لتحليل وقائع وتقلبات تحدث في مجالات اجتماعية تغيرت تماماً، أو انزاحت إلى مفاهيم أخرى يتطلب التعامل معها لغة مختلفة وخطاباً مختلفاً. ويرد في تعريف «ويكيبيديا» أن الـ«بارادايم (باللاتينية: Paradigma) ويستعمل غالباً مقروناً بالفكر مثل النموذج الفكري أو النموذج الإدراكي أو الإطار النظري، وقد ظهرت هذه الكلمة منذ أواخر الستينات من القرن العشرين في اللغة الإنجليزية بمفهوم جديد ليشير إلى أي نمط تفكير ضمن أي تخصص علمي أو موضوع متصل بنظرية المعرفة».

على سبيل المثال، إسقاط النماذج أو القياسات القديمة على النزاعات السياسية الراهنة يعتمد لغة تخضع لـ«بارادايم» كان سائداً قبل قرون، وله مقتضياته التي تجعله متناغماً مع عصره، فمصطلحات مثل الجهاد أو الشهادة أو الحروب الصليبية أو الامبريالية أو الاستعمار، تستعير لغتها ونماذجها من مراحل كانت الأرض مكاناً شاسعاً لابد أن تقطعه كي يتوسع مجال سيطرتك وتتحقق مصالحك الاقتصادية عبر طرق الأبواب والجباية المباشرة، أو حفر المناجم المحروسة في الأراضي المحتلة، أو حروب تطلبها نشر الأديان باعتبار أن كل أمة تمتلك واجب نشر الحقيقة الكلية التي في حوزتها، ومازالت تستخدم هذه الاصطلاحات في حروب سياسية ذات مصالح دنيوية إستراتيجية لا تمت لتلك الفترة بصلة، بل إنها تستخدم في حالة حرب طرفين من ذات الديانة والمذهب، حيث لكلٍ شهداؤه الذاهبون إلى الجنة، ولكل دعوته إلى الجهاد، وهي مفردات برزت مع صراع الأديان في بدايتها لنشر دعواتها، وظلت مرتبطة بكل صراع تسيل فيه الدماء حتى وإن كان هذا الصراع في عمق المحيطات أو حول مناجم الذهب وحقول النفط، أو نزع أسلحة دمار شامل.

لتوضيح فكرة الـ«بارادايم»، والنقلات الثورية في المعرفة أو التاريخ التي تتطلب ثورات معها في اللغة والمفاهيم، وبالتالي «بارادايم» جديد، سأضرب مثالاً في حقل العلم باعتباره حقلاً تجريبيا والأكثر وضوحاً في نقلاته الثورية، مستعيناً بكتاب (أرسان العقل: ما يعجز العلم، والرياضيات، والمنطق عن إخبارنا به) تأليف: نوسُن س. يانوفسكي. ترجمة: نجيب الحصادي، قيد الطبع.

يشرح يانوفسكي على لسان كُون أنه مع مرور الوقت تظهر شذوذيات محددة ضمن البرادايم العامل، غير أن التشبث بها يستمر أو يقتصر على إحداث تعديلات طفيفة على الأفكار، ما يستلزم ما يسمى «تحول «بارادايمي» من شأنه أن ينتج لغة مختلفة ورؤية مختلفة للعالم، وهناك الكثير من الأمثلة على مثل هذا التحول الـ«بارادايمي»: «المثل الأبرز هو التحول من المجموعة الأرضية البطلمية إلى المجموعة الشمسية الكوبرنيكية. وقد استغرقت هذه الثورة مئات السنين قبل أن تصبح الـ«بارادايم» الجديدة. وهناك ثورة أخرى تمثلت في التغير من رؤية نيوتن للعالم إلى نظرية أينشتاين العامة في بداية القرن العشرين. والتغير من الميكانيكا الكلاسية إلى ميكانيكا الكم شكل هو الآخر تحولاً بارادايمياً أساسياً. وفي كل هذه الحالات، كان هناك تغير كبير من رؤية قديمة في العالم إلى رؤية جديدة.

تنطبق هذه التحولات الثورية في حقل العلم على الكثير من الحقول المجردة الأخرى، أهمها السياسة والاقتصاد وما ينضح منها من اهتمام بالتاريخ والجغرافيا والأديان وطبيعة الاجتماع البشري، كعلوم توظف جميعها في خدمة التصور السياسي لكل طرف يخوض صراعاً مع تصورات أخرى .
يتماهى، على سبيل المثال، التصور البطلمي لمركزية الأرض في الكون، مع التصور التاريخي للمركزية الأوروبية في العالم؛ التي ما عاد لها وجود، لكنها مازالت تغذي الكثير من الأفكار بل وترفع مستويات شعبية التيارات اليمينية في قلب أوروبا، بينما الـ«بارادايم» الجديد يطرح عالماً جديداً منساباً لا وجود فيه للمركز ولا للمحيط، ولا جنوب ولا شمال، أو غرب وشرق. وبالمثل تتخذ التيارات المنافحة عن الإسلام وجهة نظر مقابلة لهذه المركزية باعتبار أن الأمة الوحيدة التي على حق هي أمة الإسلام، ويجب أن تحظى بأستاذية العالم، وهو «بارادايم» يعمل بنشاط ويؤسس تنظيمات نشطة ويثير حروباً ومجازر، مثلما فكرة صلب المسيح والعذابات تتجدد في مذاهب أديان أخرى كمقتل الحسين وكربلاء الذي يجعل المنطقة بكاملها على حافة حرب مذهبية. غير أن ما يحدث هو حرب سياسية تتغذى على هذا الـ«بارادايم» باعتباره أداة ناجحة للحشد، أو بالأحرى تستخدمه بقناعة رغم عدم صلاحيته لهذا العصر، وفي الواقع ما يحدث في المنطقة الآن هو صراع قومي يلبس جلباب الدين مستعيناً أيضاً بـ«بارادايم» قديم يتعلق بإمكان إنشاء إمبراطوريات كما كان في الماضي من جديد، أو ترميم إمبراطوريات قديمة عبر الاستيلاء على أراضٍ أخرى، وإيران وتركيا نموذجان لهذا الوهم، في الوقت الذي يحدد فيه الـ«بارادايم» الجديد الولايات المتحدة كإمبراطورية فعلية قابعة في مكانها لكنها تهيمن على قطاع واسع من العالم، وكل خراج العالم يذهب إليها دون أن تحتاج إلى احتلال تلك الأراضي والبقاء فيها. وبالتالي إذا ما اعتبرنا أيديولوجيا (الاستعمار) «بارادايم» قديماً، فالعولمة هي الـ«بارادايم» الجديد (وهذا لا يعني حكم قيمة على الـ«بارادايم» القديم لأنه كان صحيحاً في وقته ومتسقاً مع لغته ومفاهيمه وتصوره للعالم الذي يعمل ضمنه).

بينما نحن مازلنا نتحدث عما يسمى عودة المستعمر أو الاستعمار،ونربط الأمن القومي بحشد الجنود على الحدود، في زمن اختلف فيه هذا المفهوم، وأصبحت القوى الكبرى ــ التي كانت تحتل دولاً أخرى من أجل الاستيلاء على مواردها وتقوية اقتصادها ــ قادرة على جلب هذه الموارد إلى مصانعها رفقة العمالة دون أن ترسل جنودها وفق «بارادايم» جديد يتعلق بالتحكم في الاقتصادات عن بعد وإنزال العقوبات عن بعد عبر ما يسمى بالعالم القرية، أو العولمة، أو الشركات المتعددة الجنسيات المخترقة للحدود، أو السوق الحرة، وهو الـ«بارادايم» أنتج مفاهيم ومصطلحات ولغة جديدة لكننا مازلنا نتعامل معه بلغة قديمة جلها تتحدث عن الغزو الصليبي وعن الاستعمار والجهاد، دون أن يكون لنا دور في هذا التحول الثوري في علاقات العالم.

كيف يكون لنا دور ومازالت قنواتنا ووسائل إعلامنا يظهر فيها أشخاص ذوو حظوة وشعبية ينتمون للعصر البطلمي، ويؤكدون دون ريب أن الأرض لا تدور وهي مركز الكون، رغم أن حديثهم في الشاشات تنقله أقمار صناعية تدور مع دوران الأرض. وهذا الإنكار يطرح نموذجاً ملموساً لـ«البارادايم» الذي يمكن تطبيقه على كل شأن في حياتنا.
وفي الحقيقة اعتبر أمة كالصين نموذجاً للتحول البراديمي وفق التغيرات التي تحدث في العالم ووفق تبدل موازين القوى، لذلك تنجح في إدارة العداء مثلما تنجح في إدارة الصداقة.