Atwasat

نبضات متقاطعة - كان التعليم هدف المملكة - 15

محمد عقيلة العمامي الإثنين 30 ديسمبر 2019, 12:17 مساء
محمد عقيلة العمامي

الكثيرون من الجالية اليهودية، كانوا يصنعون الخمر ويبيعونه فيما بينهم، وأيضا للمسلمين. ويلخص رفيق طفولتي وصباي محمد حمامة الحال بتعقيب على ما ورد بالحلقة السابقة، فكتب ".. كان لدي ابن بنغازي اليهودي (ابرامينو دبوش) والد (بينى وعطية وعمورة - كانوا طلبة بمدارسنا الليبية -) وكان لديه صحيفة سوابق، اطلعت عليها لأنني كنت أعمل في النيابة العامة، مكونة من حوالى خمس صفحات (فولسكاب) تضم القضايا التي قيدت ضده بسبب بيعه (البوخة لليبيين)، فلم يكن يرفض أن يبيع لأحد ولم يرد أي شخص يطرق بابه حتى بعد منتصف الليل.

أذكر، أيضا، قضية شهيرة في ستينيات القرن الماضي، أساسها وصول أحد موظفي الحكومة الاتحادية، من مقر عمله في طرابلس، إلى مطار بنينا. وعند وصوله إلى قاعة الركاب في مطار بنينا شم أحد رجال الشرطة رائحة الخمر فألقي القبض عليه، وأذكر أن جدالا قانونيا دار في أروقة النيابة بين بعض القضاة وعضو النيابة المرحوم فرج عبد العاطي انتهى إلى إسقاط التهمة عن هذا الموظف الكبير، ليس بسبب وظيفته ولكن لأنه تعاطى كؤوسا من الخمر في طرابلس قبل صعوده للطائرة، وهذا ما يعرف في القانون بتطبيق القانون من حيث المكان والزمان.

وأذكر أنه في نادي الملاحة كان (مشرب) يقدم الخمر لأعضاء النادي وعند تولي المرحوم معيزيق حمودة شدد على ذلك فكلف شرطيا في البار يراقب الأعضاء العرب والمسلمين وكان بعض العرب من أعضاء النادي يتحججون بأنهم ليسوا مسلمين ، ولم يستمر الأمر طويلا إذ يبدو أن بعض الأصوات قد تعالت ووصلت إلى المسؤولين الكبار في الدولة فأنهوا مهمة رجل الشرطة.

وأقول، وأنا شاهد عيان، أن الخمر كانت أقل الشرور في مجتمع ذلك الوقت. كان في المدينة بعض المدمنين، وكان يكفيهم، ويبعدهم عن الشوارع. وكان بين شباب المدينة دستور غير مكتوب وهو تعاطيها ليلا وبعيدا عن الأنظار.

أنا في الواقع لست مدافعا عن تعاطي الخمور، غير أن مقارنتها بما جد علينا من حبوب الهلوسة والحشيش والأفيون والكوكايين، أسوأ بكثير من تعاطى الخمر" .

ما أوجزناه، بالإضافة إلى عدد كبير من مشاكل اجتماعية توارثها المجتمع، برزت بسبب ما حدث في الطفرة الأولى، ومع ذلك تعددت المدارس؛ الابتدائية، والثانوية والكليات وأصبح التعليم هدفا مقدسا للدولة الليبية الوليدة، وهو هدف الشباب فلم يكن من وسيلة من الخروج من دائرة الفقر، واللحاق بما خلقته الطفرة إلاّ التعليم الذي كان بحق متاحا للجميع من دون استثناء، وكانت البعثات الدراسية إلى الخارج لا يحكمها إلاّ تفوق الطالب، ولتحقيق ذلك تعاقدت الجامعة مع نخب التعليم في العالم العربي، حتى أن الدكتور طه حسين صرح في حديث إذاعي، في أواخر ستينيات القرن الماضي، أن الجامعة الليبية هي أفضل الجامعات العربية.

وكانت الجامعة الليبية تزود الطالب حال قبوله ببدلتين أنيقتين، وبمنحة دراسية تقترب كثيرا من مرتب موظف، ناهيك عن رحلات علمية وترفيهية إلى أوروبا للطلبة البارزين والمتفوقين. ولم تكن هناك أية فوارق طبقية في مجتمع الدولة الآخذة في الارتقاء والازدهار، والحقيقة أن الحال استمر لسنتين بحسب ما كان سائدا قبل سقوط النظام، ففي سنة 1970 بعد ثمانية أشهر تحديدا اختارني عميد كلية الآداب الدكتور منصور الكيخيا ضمن وفدٍ مطلوب في الأمم المتحدة، وأنا أعيل نفسي وعائلتي الكبيرة من محل لبيع الخضار، في وقت كان بالجامعة العديدون من الرفاق النافذين سواء في العهد الملكي، أو في العهد الجديد.

كانت مدرسة الأمير الليلية تدفع إلى الجامعة بطلبة كانوا يتنافسون مع طلبة الفترة الصباحية على التفوق، ولعلني أكون صائبا إن قلت أن محاكم بنغازي ظل أغلب قضاتها ومحاميها من دفعة 71 /72 وجميعهم رفاقي في مرحلة الدراسة الثانوية في مدرسة بنغازي الثانوية، وكاد أحدهم أن يحكم عليَّ بالسجن، لو لم انتبه إلى أنني لا أجادله أمام مقصف مدرستنا، وإنما في مكتب وكيل نيابة يضعني خلف "باب الحديد" بجرة قلم، كان يقترضه منى هو والمعلومة التي مررتها له خلال امتحان مادة اللغة الفرنسية!. كانت المناهج موحدة، ولم يعد التدريس الليلي تطوعا ولكنه أصبح رسميا، منذ أن كُلف الأستاذ مفتاح شرمدو ناظر لمدرسة العمال الليلة سنة 1960.

وعلى ذكر "باب الحديد" انتشرت أغنية في ذلك تقول: "باب الحديد وفوقنا عساسه" وهي إشارة إلى أنه مسجون، لا لشيء إلاّ لأنهم قبضوا عليه لأنه اعتدى على أحد ندمائه وهو سكران، وانتشرت أغنية يقول مطلعها: "حلال الجلاء منك يا بنغازي .." ولكن لم يجلُ منها سوى أربعة أو خمسة على الأكثر، أما بعد أن عولجت أمور بلادنا برأي أحادي، في بعضه ما كان يعترض عليه أحد، قبل وصول الجيش إلى السلطة، الذي أصبحت ساحة الجامعة مكانا متميزا يتباهون به بقيافتهم العسكرية، وفي كثيره غابت الحكمة والرؤية والتطلع إلى ما يصعب تحقيقه في مجتمع لم يكن فيه ما يستحق التأميم، ولا التجنيد الإجباري! عندها لم يعد الجلاء من بنغازي مجرد حلم أو "فشة خلق" وإنما ضرورة تصل حد المحافظة على حياتك، خصوصا بعدما تفاقمت مشاكل مع دول أفريقية لم يعتد أحد عليها، وعربية لم يعتد أحد عليها.

كانت هناك تطلعات إلى أمور سياسية، قد يكون الكثير منها يفرضه الدين والانتماء إلى قومية أحببناها، ولكن النظام تسرّع كثيرا، في الانضمام إليها، ناهيك أنه اعتمدنا بشكل مباشر على أناشيد وأغان وطنية تصدح طوال الليل والنهار، وعلى الكثير من المدّعين في التسويق لها، فكانت النتائج مؤلمة والهجرة أصبحت غاية معظم الشباب.

سنتناول بعض الأحداث التي كنت شاهد عيان عليها وأصفها مثلما حدثت برؤية شاب جامعي، ولكنه لا يفقه شيئا في مسبباتها، فلم يكن لا سياسيا ولا مناضلا، وإنما شابا قفز من مركب فقر، ويسبح بأسرته الفقيرة نحو بر الأمان، وعيناه، في الوقت ذاته، مشرعتان على ما كان يعتقد أنها مغريات الحياة!

ولكن قبل ذلك نحتاج إلى أن نتحدث وأن نقدم مسببات الطفرة الثانية، وهي التي قد نُرجع أسبابها إلى الطفرة الأولى.