Atwasat

الجابري وطرابيشي: ثلاثة عقول وثلاث ايديولوجيات. (1–2)

محمد خليفة الأحد 29 ديسمبر 2019, 06:19 مساء
محمد خليفة

الأبعاد الفكرية لما أثاره «نقد نقد العقل العربي» (لطرابيشي( استدراكًا على «نقد العقل العربي» (للجابري) جدير بكتاب يأتي على الإشكاليات من جذورها ويلخصها لغير المتخصص بشكل علمي- موضوعي! وكتاب من هذا النوع لا تسمح به مشاغلي في الوقت الحالي، ولذا سأكتفي بموجز من بضع صفحات يكون ملخصًا لما يمكن أن يستغرق كتابًا كاملًا.

أولاً. العقل بين الوحدة والتعدد
بأبسط الأساليب يمكن الحديث عن عقل فطري وعقل مكتسب. العقل الفطري واحد عند كل البشر والعقل المكتسب مختلف باختلاف الثقافات والحضارات. من هذا المنطلق سيكون حديثي منصبا على وحدة العقل الفطري، وتعدد العقول المكتسبة. ولما كانت العقول المكتسبة متعددة، وكان من المستحيل الإحاطة بها كلها، فسأقسمها إلى قسمين رئيسين: العقل المسلم (أو العقل المكوَّن إسلاميًا)، والعقل غير المسلم (أو العقل الذي تكوَّن في ثقافة أو حضارة غير إسلامية). والنتيجة التي أخلص إليها هي أنه لا يلزم من وحدة العقل الفطري وحدة العقول المكتسبة، وإلا ما كان هناك داع للتفرقة بين الفطري والمكتسب من العقول.

أ‌)- وحدة العقل الفطري
العقل الفطري هو العقل الذي يولد به الإنسان السوي، وهذا «العقل» هو ما يمّكن الصبي المميز من حفظ أن 1+1= 2، وأن 2X2= 4. وانطلاقًا من هذه المعادلات البسيطة ينتقل عقل الإنسان الناشئ من البسيط إلى الأقل بساطة، ومن الأقل بساطة إلى المعقد، ومن المعقد إلى المعقد جدًا، وإلى أن يصل إلى فكرة اللانهاية في عالم الأعداد.

هذا العقل الفطري؛ القادر على الحفظ من جانب، والقادر على إدراك العلاقات التي تختلف باختلاف المعطيات والفرضيات من جانب آخر، هو ما يسميه الجابري نقلاً عن أندريه لالاند: «العقل المكوِّن». وهذا المصطلح هو الترجمة الحرفية للمصطلح الفرنسي La Raison Constituante. وبهذا العقل يتميز الإنسان عن الحيوان، لأن الحيوان ليس له «عقل مكوِّن» ولا يمكن بالتالي أن يكون له «عقل مكوَّن»، ولذا يعيش دائمًا على «الغريزة». والغريزة قاسم مشترك بين الإنسان والحيوان، ويتميز الإنسان عن الحيوان بالعقل، فإذا عطل الإنسان عقله وعاش وفقًا للغريزة يصبح ليس مساويًا لبقية الحيوانات وإنما أسوأها: «إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون»!

ب‌)تعدد العقول المكتسبة.
معلوم لدى المسلمين أن الطفل يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه! والقصد أن الإنسان مدين لمجتمعه أو لحضارته بجملة القواعد الموضوعية ( = القيم) التي يعكسها اتجاهه الفكري وميوله الثقافية، فامتناع المسلم عن أكل لحم الخنزير مثلاً مرجعه حكم القرآن بأن لحم الخنزير رجس، وأكل غير المسلم لذات اللحم مرجعه لثقافته التي لا ترى في لحم الخنزير شيئا آخر غير طعام من الأطعمة. قياسًا على ما سلف يمكن أن نرى اختلاف القيم في بقية الحقول، فالحرية على سبيل المثال تشمل في العالم الغربي العلاقة الجنسية العابرة، في حين تعتبر تلك العلاقة جريمة عند المسلمين. والتعامل المالي الربوي مسألة تجارية في الغرب، أما في الإسلام فالمتعامل به موضوع لإعلان حرب من رب العالمين.

وعن العقل المكوَّن أو بتعبير لالاند La Raison Constituée تصدر مجموعة الإجراءات التي يقوم بها الإنسان في عالم الفكر، والقيم التي يعمل بها في عالم الواقع، وهذا العقل المكتسب/ المكوَّن هو العقل الذي كونه/ راكمه العقل الفطري/ المكوِّن! وخاصية هذا العقل أنه تكون/ تراكم في ظل حضارة أو ثقافة معينة، ولذا هو مختلف باختلاف الحضارات/ الثقافات. العقل الفطري إذن واحد في كل البشر، لأنه قدرة بشرية لبني آدم كلهم! وهذا العقل هو ما يتوجه إليه الخطاب القرآني، فمن صدق القرآن انتقل إلى التكاليف الشرعية، ومن كذبه يكون من غير المسلمين، ولا يكلف بما يكلف به المسلم. والسر في هذا أن غير المسلم لا يحتكم إلى القيم الإسلامية وبذا يكون من ثقافة مغايرة أو يعش بعقل كونته حضارة/ ثقافة مغايرة.

1)العقل المسلم.
العقل قدرة من القدرات البشرية، مثل السمع والبصر والكلام، ولا يخاطب القرآن العقل بل يخاطب صاحب العقل (الإنسان)، ولذا تجد عبارات قرآنية موجهة «لأولي النهى» أو لأولي «الألباب»، أو لكل ذي «حجر»، وتعني أصحاب العقول. ثم تجد عبارات من نوع «فاعتبروا يا أولي الأبصار»، أو «إن السمع والبصر والفؤاد كل أولائك كان عنه مسئولًا». البصر مثل النظر، قدرة بشرية، غير أن مصطلح النظر مرادف لمصطلح الفكر والتفكير كما في قول إبراهيم عليه السلام لإسماعيل: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى..! فانظر ماذا ترى تعني فكر في الأمر ..!

صاحب هذا العقل ( = المسلم) يوحد الله، بينما يوحد غيره من الناس «العقل»، وتوحيد العقل يضفي عليه صفة الوحدانية التي لا تنبغي لغير الله الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ولذا كان القول بوحدة العقل الفطري غير ناف لاختلاف وجهات النظر عند أصحابه!

وغير المسلم لا يرى بأسًا في أن يجعل الله والعقل شيئا واحدا كما هو الحال عند سبينوزا الذي كان يؤله العقل ولكن بعبارات لا يدرك كنهها إلا القليل، مثل تفرقته بين «الطبيعة الطابعة» و«الطبيعة المطبوعة»: الطبيعة الطابعة هي الله والطبيعة المطبوعة هي الكون، ومع ذلك هما شيء واحد، وأساس ذلك فكرة «وحدة الوجود» التي حملها هيجل بعد سبينوزا. هيجل يرى الله والعقل شيئا واحدا، والله والتاريخ شيئا واحدا، ويرى «الدولة» في صورة «العقل» الذي يحقق ذاته كإرادة، وبذا يكون الله والعقل والتاريخ والدولة شيئا واحدا.

وقد شرّع بعض ثوار فرنسا شريعة جديدة تدور حول «عباد العقل» غير أنهم اكتشفوا سريعًأ أنهم يشرّعون لعبادة الإنسان لأن العقل ليس معزولاً عن الإنسان، بل هو خاصيته المميزة. ويظل تأليه العقل العمود الفقري لفكرة وحدة الوجود التي مختصرها: «العقل يحكم العالم». وما سلف من تعقيد هو ما اختصره الجابري في قوله «التفكير في العقل درجة من المعقولية أسمى بدون شك من درجة التفكير بالعقل»، والمعنى أن التفكير في العقل هو التفكير في الإله، أما التفكير بالعقل فهو استخدام القدرة البشرية على النظر/ التفكير. وفي هذا النوع من النظر/ التفكير تفترق العقول -المسلم عن غير المسلم- فالمسلم يوحد الله وغير المسلم يؤله العقل!

1)العقل غير المسلم
ما يثير أكبر الإشكاليات هو العقل العربي الذي ينتسب للإسلام وينضبط على ايديولوجيا غير إسلامية! وهذا العقل هو ما تراه عند مفكرين من نوع صادق جلال العظم، وحسين مروة، وطيب تزيني، والعفيف الأخضر. وهولاء الماركسيون من أبناء المسلمين لا يختلفون عن الماركسيين من أصول مسيحية مثل جورج طرابيشي وعزمي بشارة. هولاء وهولاء هم ورثة مشروع خيري عنوانه: «أفضل خدمة نقدمها للمسلم هي تحريره من دينه» الذي دشنه ارنست رينان سنة 1883.

اتحاد الفريقين يجعل وصفهم بالمسلمين أو المسيحيين سذاجة معرفية، أو مجرد تضليل للنقاش، لأن ما يوحد الفريقين هو الايديولوجيا التي تروم إلغاء الدين. وإلغاء الدين هو ما عمل عليه فرح أنطون بعد ارنست رينان علانية، وعمل عليه جورج طرابيشي أو يعمل عليه عزمي بشارة دون إعلان. طرابيشي وبشارة فارقا المسيحية اتباعًا لسنة ارنست رينان وفرح أنطون، وكان كل الأربعة على أمل أن يحذو المسلمون حذوهم ويتركوا الإسلام طلبًا لمساواة المسلم بغير المسلم. وهذا ما يجعلني أجزم أن الجدل بين الجابري وطرابيشي ايديولوجي وليس ابستيمولوجيا.