Atwasat

نبضات متقاطعة: 14- مواخير وحانات

محمد عقيلة العمامي الإثنين 23 ديسمبر 2019, 12:28 مساء
محمد عقيلة العمامي

كان للطفرة التي تحدثنا عنها محاسن وأيضا عيوب. ولعلكم تتفقون معي أن محاسن زمن المملكة كانت أكثر بكثير من عيوبه، لأن أي طفرة في أي مجتمع، لها بالتأكيد عيوبها، وأيضا محاسنها. فماذا نتوقع ممن يخرج من قبو الفقر من دون علم، ولا تعليم، ولا خبرة ويجد ثروة في متناوله، وبيئة اقتصادية جديدة وفرت له المغريات كلها؟ لقد سألنا في مطلع السبعينيات طالبا عربيا ينتعل صنادلا في مدرسة اللغة ببريطانيا، وكان يتباهى أمام الطالبات بساعة ثمينة: كيف يستطيع يتحمل برد بريطانيا القارص، بهذا الصندل؟ أجابنا بعفوية، لأنه لم يعتد الأحذية، وبالطبع لا أحد يلومهم فللبيئة ظروفها وللفقر، وقلة المعرفة سطوتها!

لا ينبغي أن نرجع أسباب عيوب تلك الطفرة إلى حكومة دولة المملكة الليبية المتحدة، فالشهادة لله أنها سخرت لنا رجالا وضعوا مصلحة البلاد والعباد فوق كل شيء، وعملوا بالسبل كافة للنهوض بدولتهم القائمة من تحت عباءة غول الفقر، والجهل.

سنة 1911 تركتنا تركيا، من بعد أن استعمرتنا قرابة خمسة قرون؛ كنا خلالها مجرد عبيد في مزرعة سلطان سخر جلاديه لتحصيل الضرائب أو "الأعشار" مثلما كانت تسمى في ذلك الوقت، وقد بلغ مجموع الضرائب المفروضة على ولاياتهم(97) ضريبة فقط! : "تفنن السلاطين العثمانيون وولاتهم في فرض الضرائب قبل عصر التنظيمات، حتى بلغ عددها في بعض العهود وفي بعض البلاد سبعاً وتسعين ضريبة، وكان السبب في فرض الضرائب الكثيرة هو أن الوالي كان مسئولاً عن النظام في الولاية، كذلك قيام الوالي بجباية ضرائب مبتدعة وغير رسمية لتأمين نفقاته الخاصة ونفقات الولاية العامة، وقد قسمت هذه الضرائب إلى أنواع مختلفة.."*

وعلى الرغم من أن أسباب تحصيل هذه الضرائب، هو تمويل جيشهم للدفاع عن ولايتهم وبالطبع المحافظة على الأمن، غير أن هذا الأمن اقتصر على "الفلقة " التي ابتكروها لهذا السبب، كان محصل هذه الضرائب يجمعها رفقة رجال أشداء لتنفيذ عقاب من لا يدفع الضريبة في الساحات العامة ليتعظ أكبر عدد ممكن ممن يتقاعسون في سداد الضرائب المفروضة عليهم.

وعندما وصلت أساطيل إيطاليا، انتبهوا إلى أنهم لا يستطيعون التصدي لها وحماية ليبيا، التي استنزفوها، بسبب الإنفاق الباذخ على ملذات سلاطينهم، من الذين تقاسموا "مستعمراتهم " من بعد أن ضاعت هيبتهم ونخر الفساد في مفاصل إمبراطوريتهم. قاموا بـ (تهويشات) صبيانية تمثلت في تدريبات لا تتصدى بأي حال من الأحوال لحجم القوة التي وصلت شواطئ ليبيا، وانتهى الأمر بتسليم البلاد رسميا وبموجب معاهدة "أوشي" سنة 1912، وكأن ليبيا حي من أحياء أزمير.

وعلى الرغم من استعمارهم الطويل لنا، تركونا للعوز والجهل؛ لم يتركوا لنا سوى بضعة جوامع دفن فيها ولاتهم، والسرايا الحمراء، وطبيب واحد وعدد يحصى على أصابع اليد الواحدة من مدرسين. غير ذلك لا شيء، ولولا الدعوة الإصلاحية السنوسية، التي انتشرت في أواخر عهدهم، وإقامتها لكتاتيب علمت القرآن، وفك الخط والقراءة والكتابة، لوصل الاستعمار الإيطالي إلى بشر لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، ولا الفرق بين أن يَحكموا أو يُحكموا.

لقد رفع هؤلاء الذين تعلموا في الزوايا السنوسية شعار الجهاد، ضد الاستعمار الإيطالي، ثم وجدوا المساعدة والتدريب والملاذ في دول الجوار، وكانت مصر أكثرهم أمنا ومساعدة.

لقد استعمرتنا إيطاليا، وأعدم من أعدم، ومات من مات في المعتقلات، وهجّرنا، وهاجر القادرون، واستمر احتلال إيطاليا لنا حوالي ثلاثين عاما، تركوا بعدما غادروا أكثر بكثير مما ترك العثمانيون، إخواننا في الدين! ثم بعد أن أصبحت بلادنا ساحة من ساحات الحرب العالمية الثانية. خسرت إيطاليا الحرب، وتولت الإدارة البريطانية البلاد ، فعلموا أعدادا من فنيين في أربع سنوات يفوقون ما علمه العثمانيون في خمسة قرون، كل ذلك حققوه، على سبيل المثال، من خلال ورشة كبيره في بنغازي تسمى (الجينيو) ولقد عاصرت، شخصيا، عددا ممن تعلموا فيها وأصبحوا صناعا مهرة.

فماذا، بعد ذلك، نتوقع من مجتمع طوقه الجهل والفقر والعوز، ومن منا لا يتصور كيف يكون حال إنسان بسيط تحاصره الهموم ولا مخرج له سوى هروب من واقعه، إلى أماكن لهو ليفرج عن ضيقه ومأساته، فكانت الحانات، أما الذين لم تستهوهم الحانات، فكانوا يقضون أماسيهم، في مقاه تحت أقواس الفندق البلدي يستمتعون بغناء (السحنتي) و(الزقنيني) اليهوديين اللذين علما الكثيرين من فناني بنغازي الشعبيين، أما القادر، الذي لا يحب الخمارات، فيقضيها حول جلسة شاهي، في حجرة من حجرات ماخور كان قائما حتى ستينيات القرن الماضي، معروف بمنطقة "توريلي" وغير بعيد عن قسم الأمراض التناسلية في (السبيتار الكبير) الذي هدم مؤخرا. ولعل هذا الماخور الذي ترددت عليه يوميا لأكثر من شهر بمجرد أن عرفته، ثم مرة في نهاية كل شهر، وكانت أغلب زياراتي للفرجة فقط، فمن كان يملك حينها عشرين قرشا ينفقها ثمنا لهذه الزيارة؟.

ما إن تحسنت أحوال الدولة المادية، حتى بدأت تخطط لمعالجة ظواهر البلاد السلبية، وكانت الخمارات منها، وبدأت الدولة في تقنينها، ثم في تنفيذ مخطط للحد منها، ومن توابعها، ولكن الأمر ليس بالسهولة التي نتصورها، فالأمر مرتبط بإرث متواصل لسنوات، ناهيك عن علاقة دولة وليدة بعالم لا يرتبط بها إلاّ وفق مصالح مشتركة، وكانت الحاجة إليهم تتطلب تواجدهم، وما كانوا ليبقوا لو لم يجدو ما اعتادو عليه..

لا أحد ينكر أنه كانت هناك ضرورة لتصحيح بضعة سلوكيات مستهجنة، فليبيا المملكة استطاعت بسهولة ووفق خطط، أراها الآن، مدروسة وليست انفعالية، فلقد استطاعت، على سبيل المثال، القضاء على مشكلة أماكن البغي الرسمي في أحياء وسط البلاد سواء في بنغازي أو طرابلس، في زمن قياسي. كانت هناك نوايا طيبة، ولكن للطفرات أسبابها وثمارها، وأيضا أضرارها.

لقد أصدر الأمير محمد إدريس السنوسى مجموعة من المراسيم الإصلاحية، عندما كان أميرا لبرقة أحدها كان حظر بيع وشرب الخمر على المسلمين، وظل القانون ساريا في برقة ولم يصدر ما يماثله فى طرابلس**. وسنعرف في الحلقة القادمة المزيد عن هذه الحالة

------------------
*راجع حافظ صلاح "للتاريخ والحضارة":
https://www.facebook.com/1209877165730875/posts/2119573284761254/
** في طرابلس كان ممنوعا بيعه للمسلمين يوم الجمعة. (المحرر)