Atwasat

عُسْرُ الترجمة

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 22 ديسمبر 2019, 12:36 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

الترجمة عنصر تواصل بين الثقافات والحضارات، وعامل إثراء للثقافات والحضارات التي تتلقى هذه الترجمة، كما أنها تتضمن تقديرا للثقافات والحضارات المترجم عنها. إنها فاعل هام في التفاعل الثقافي السلمي بين الشعوب يسهم في محاولة خلق تقارب وتنافذ بينها في إطار التنوع الثقافي الذي هو أمر ضروري ولازم.

ولا يقدح في هذه الأهمية أخطاء الترجمة التي ترتكب عفوا (عن قلة معرفة) أو عمدا (بدافع آيديلوجي) في بعض الترجمات هنا وهناك.
ويبدو أن ترجمة الأعمال الكلاسيكية في لغة ما إلى لغة أخرى أسهل من ترجمة الأعمال الحديثة. ذلك أنه في الحالة الأولى تجري الترجمة من لغة مستقرة، ألفاظها محددة المعاني، إلى لغة أخرى، مستقرة هي أيضا. أما بالنسبة إلى الأعمال الحديثة (خاصة في مجالات العلوم الإنسانية) فهناك تجديد مستمر في اللغة المنتجة بها هذه الأعمال من حيث إعطاء معان جديدة لألفاظ قديمة أو سك مصطلحات جديدة أو نحت تعابير يكتنفها قدر من الغموض. وسنأخذ هنا مثالا واحدا يتمثل في ثلاث ترجمات عربية ووجهات نظر لجملة فرنسية قصيرة واحدة هي:
La logique est la physique de l'objet quelconque.

للمختص بالرياضيات وفلسفة العلوم (يسميها د. طه عبد الرحمن: فقه العلم) السويسري فرديناند غونسيت*.

يترجمها د. محمد عابد الجابري كالتالي:

"المنطق عبارة عن فيزياء موضوع ما" ويؤلها على النحو التالي:

"إن المنطق أو العقل هو في نهاية التحليل جملة من القواعد مستخلصة من موضوع ما، وهكذا فكلما توفر لدينا موضوع ذو خصوصية واضحة أمكن القول بوجود عقل أو منطق خاص" (1: 43).

لكن د. طه عبد الرحمن يعترض على الترجمة والتأويل كليهما. يقول:
"أما الترجمة السابقة فهي فاسدة؛ والدليل على فسادها هو أنها تحمل معنى مناقضا للمعنى الأصلي للعبارة الفرنسية؛ فدلالة المقابل العربي هي أن المنطق يدرس موضوعات معينة ومخصوصة، ويستخرج قوانين كل منها، بينما دلالة الأصل الفرنسي هي أن المنطق يدرس كل الموضوعات، أيا كانت، بمعنى أن القوانين التي يستخرجها ليست خاصة بهذا الموضوع أو ذاك، وإنما شاملة لكل الموضوعات، كائنة ما كانت، وشتان بين الدلالتين". ويرى د. عبد الرحمن أن الأنسب ترجمة العبارة بـ "المنطق عبارة عن فيزياء كل موضوع، كائنا ما كان" (1: 43).

بيد أن جورج طرابيشي يترجمها ويشرحها باختلاف كامل عن الترجمتين السابقتين. فهو يقول بأن غونسيت "عرف المنطق الأرسطي بأنه ‘‘فيزياء الموضوع ما" ويصفه بأنه تعريف لا يخلو من غموض. ويمضي قائلا: "فـ ‘‘الموضوع ما‘‘ في تعريف غونسيت بالفرنسية معرف. أما في ترجمة الجابري فمنكَّر. والحال أن كل أهمية تعريف غونسيت وإبداعيته تكمنان في جمعه بين أداة التعريف ‘‘أل‘‘ وأداة التنكير ‘‘ما‘‘. فـ ‘‘فيزياء موضوع ما‘‘ هي محض فيزياء، أما ‘‘فيزياء الموضوع ما‘‘ فهي وحدها التي تصلح، بتجاوزها قواعد اللغة، لأن تكون حدا للمنطق الأرسطي". ويستمر طرابيشي في تأويله أو تبريره "وهذا التحديد النعتي الأخير بالغ الأهمية. فغونسيت لم يقل إطلاقا إن المنطق ‘‘إن المنطق أصبح عبارة عن فيزياء موضوع ما‘‘ ، بل ما قاله بالتحديد هو أن المنطق الأرسطي ‘‘كان‘‘ بمثابة ‘‘فيزياء الموضوع ما‘‘. والغاية من إدخال ‘‘ما‘‘ النكرة على الموضوع المعرف بأل واضحة للعيان: فالتنكير بواسطة الـ ‘‘ما‘‘ بالفرنسيةكما بالعربية هو ضرب من التبخيس.

وقولنا عن الشيء بالفرنسية أنه quelconque بالرجوع إلى ‘‘اللاروس‘‘** بالذات – أنه غير ذي قيمة". ويستنتج طرابيشي من ذلك أن تعريف غونسيت المنطق الأرسطي بأنه "فيزياء الموضوع ما، لا يعني سوى شيء واحد: ‘‘فيزياء الموضوع العديم القيمة‘‘. وتلك هي أصلا فرضية عمل غونسيت الأساسية: فانطلاقا من الموضوع ‘‘المتطور‘‘ للغاية الذي تتعامل معه الفيزياء الحديثة، ألا وهو الموضوع الذري، فإن الموضوع الذي يتعامل معه منطق أرسطو هو موضوع ‘‘بدائي‘‘ للغاية فيزيائيا: إنه الجسم الصلب، لا في بنيته الداخلية، بل في مورفوليوجيته الخارجية من حيث أنه اسم ظاهر الوجود، له طول وعرض وارتفاع، ويقع في حضوره وغيابه حتى تحت ملاحظة الطفل" (2: 265- 266).

تدلل الشواهد السابقة، التي اضطرنا السياق إلى إثباتها رغم طولها، على بعض حالات تعسر الترجمة، وأن الترجمة تكون في كثير من الحالات "قراءة" أي "تخمينا" و "تأويلا". فالجابري يرى أن الجملة تختص بموضوع محدد للمنطق ذي خصوصية لا تسري على غيره، بينما يرى عبد الرحمن أن المنطق يدرس أي موضوع. ويرى طرابيشي أنه يدرس "الموضوع العديم الأهمية" الذي "... يقع في حضوره وغيابه حتى تحت ملاحظة الطفل".

الملاحظات والمراجع.
* هناك اختلاف بين الثلاثة حتى في تهجي الاسم بالعربية. فالجابري يكتبه "كونزيت" ويكتبه عبد الرحمن "غونزيت"، بينما يكتبه طرابيشي "غونسيت".

** أشهر قاموس في اللغة الفرنسية
1- الدكتور طه عبد الرحمن. تجديد المنهج في تقويم التراث. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء – المغرب. ط3. 2017.
2- جورج طرابيشي. نظرية العقل. دار الساقي. بيروت – لندن. ط4. 2011.