Atwasat

التحديق في عين الموت

سالم العوكلي الثلاثاء 17 ديسمبر 2019, 12:14 مساء
سالم العوكلي

ما الفرق بين المفجر الانتحاري والمضرب عن الطعام؟ سؤال يطرحه تيري إيجلتون في كتابه (الإرهاب المقدس) ترجمة: أسامة إسبر. طالما الاثنان يعتبران فكرة الموت وسيلة لتحقيق مطلب حياتي.

المضرب عن الطعام ينفذ عملية انتحارية بطيئة جدا، محاولا أن يقايض احتضاره البطيء برغباته، فهو ضحية مقترحة تعطي وقتا للخصم كي يتدخل وينقذ حياتها. بينما التفجير الانتحاري فعل بسرعة البرق لا يحتاج إلا لضغطة على زر ملحق بجسده الذي تحول إلى عبوة متفجرة، والمقايضة تتم عبر أشلائه وأشلاء من كانوا لسوء حظهم في المكان، مطلبه جذري لا يمكن التفاوض حياله، أو ما يسمى ضربا من (الخلق التدميري) واستبدال الوضع الإنساني بوضع آخر متخيل.

وليس بالضرورة أن يكون الله في صميم هذا الفعل، فكثيرون قاموا بتفجير أو حرق أجسادهم من اجل أيديولوجيا (أحيانا لا تؤمن بوجود الله)، أو من أجل مطالب قومية أو حقوق إثنية كما كان يفعل الشيوعيون، أو متمردو الباسك، أو الأكراد، ولكن في جميع الأحوال إذا ما اعتبرنا الله نقيضا للشعور بالظلم فهو حاضر فيها جميعا، ما يصبغ فكرة التضحية وما تمخضت عنها من وسائل إرهابية بفكرة ميتافيزيقية طالما تستخدم الموت أداة لها، وما بعد الموت سرديتها. يقول إيجلتون في كتابه المذكور: "يأمل معظم المضربين عن الطعام أن يظلوا على قيد الحياة ولكن هذا ليس حال الانتحاريين. ففكرة الإضراب عن الطعام ليست هي رفض الطعام بالتحديد وإنما طعام المضطهِد، وهكذا فإن المُضرب يكشف عن مفارقة مفادها أنه أُبقِي على قيد الحياة من قِبل أولئك، الذين هم في الأساس، هناك في الخارج لتدميره ... والإضراب عن الطعام والتفجير الانتحاري متشابهان في أن كليهما يحملان تناقضا ذاتيا. فإذا كانا يمثلان أعراض ضعف ويأس فهما يمثلان أيضا مسرحين للتحدي. يصرح المفجر الانتحاري بأن الموت أفضل من هذه الصورة البائسة للحياة، وبالفعل إن حياته تلك هي شكل من أشكال الموت، والموت الحقيقي للمرء إنما تحققه المادي.".

مع هذا الطرح الجوهري لمفهوم الموت والحياة عند الانتحاري، يذهب ايجلتون، من خلال كتابه، إلى الإحاطة بهذه الرغبة في الموت الفجائعي عبر آليات غسيل الدماغ، أو الوعد بأبدية سعيدة، حين يركز على الانتحاريين الذي يودون بحياتهم وبحياة آخرين في سبيل الله. فحين يفجر المفجر نفسه لا يعني هذا أنه مولع بشكل مرضي بوسواس الموت، فالمضرب عن الطعام والمفجر الانتحاري يدركان أن الحياة ثمينة وإلا لما دخلوا هذه المقايضة الصعبة، ويرى كلاهما أن ما يجعل للحياة قيمة جوهرية هو الاستعداد للتخلي عنها من أجل فكرة: "وهناك دوما الفكرة الخادعة عن الجنة لتسهيل مرورك. لكن الشهيد الحقيقي هو الذي يتخلى عن كل شيء، حتى عن أمل الخلاص. أما المفجر الانتحاري بالمقابل فعينه مصوبة بقوة على مكافأته الأبدية، فهو أشبه بالشهيد المزيف الذي يحاول أن يدخل بالغش إلى نادي الجنة من خلال سَحر مالكها.". من جانب آخر يرى بلانشو أن المنتحر من الممكن أن يكون شخصية مأساوية لكنها تحتوي على قدر كبير من التهكم والسخرية في الوقت نفسه.

تحدث هذه المقايضات التي لا يملك فيها الطرف الضعيف سوى جسده كأداة للتبادل في وجه استبداد قوي يجرد الإنسان من أي أدوات سلمية للمقايضة، وكما يقول إيجلتون: "القوة المطلقة هي نوع من الموت الحي: بحاجة إلى أن تحول البشر إلى جثث من أجل أن تؤمِّن سيطرتها عليهم. وبالمقابل، فإن المضرب عن الطعام هو صورة معكوسة لتلك القوة، فهو يقهر خصمه بوضعه حدا لحياته. وبتأكيده لسيادته على ذاته يمحو نفسه من الوجود. والثمن الذي يدفعه من أجل تفوقه على قوة السلطة هو اللاوجود.".

قدمت قناة العربية العام 2008 حلقة خاصة من برنامج (صناعة الموت) عن مدينة درنة، والسبب يرجع إلى أن القوات الأمريكية عندما اقتحمت أحد مقرات تنظيم القاعدة في العراق عثرت على وثائق وسجلات، أهمها يشير إلى أن حوالي60 % من الجهاديين الذين يأتون من ليبيا "من مدينة صغيرة شرق ليبيا تسمى درنة"، وحوالي 80% من الليبيين الذين يختارون القيام بعمليات انتحارية يأتون من هذه المدينة ، الأمر الذي لفت نظر المتابعين والمحللين.

قُدِّمت هذه الحلقة العام 2008، وقد أزعجني وقتها اختزال درنة في فكرة واحدة لصناعة الموت وأنا أعرف أن سكانها من أكثر الناس تعلقا وحبا للحياة. أذكر أني كتبت مُعلقا على هذه الحلقة مقالة بعنوان "لماذا درنة؟" حاولت أن أبين فيها حقيقة هذه المدينة، وأن أثير بعض الأسباب المسؤول عنها النظام والسياسات العامة المهمِّشة للشباب والتي أدت ببعضهم لأن يتحولوا إلى انتحاريين، وفي نهاية المقالة قلت: "هؤلاء شبان لم يجدوا معنى لحياتهم فبحثوا عن معني لموتهم.". يبين كتاب إيجلتون أن الأمر أكثر تعقيد من ذلك في صدد بحثه عن الجذور البعيدة لمفهوم (الإرهاب) وما يضمره من أفكار عن التضحية والسامي ونشر الخوف دفعته للبحث عن سياق أكثر أصالة للإرهاب "ممكن أن يسمى على نحو فضفاض ميتافيزيقيا".

يبين في فصل (دعوة إلى طقوس عربيد) أن تسمية الإرهاب تعتبر تسمية حديثة لظاهرة يفترض أنها قديمة: "فقد ظهر في البداية كفكرة سياسية إبان الثورة الفرنسية، وهو ما يعني في المحصلة، أن الإرهاب والدولة الديمقراطية الحديثة كانا توأمين منذ الولادة". غير أنه يذهب إلى مفهوم أوسع لكلمة (الإرهاب) حين يعتبره قديما بقدم الإنسانية، فقد كان البشر يسلبون ويقتلون بعضهم البعض منذ فجر التاريخ ، خصوصا حين ظهر مفهوم المقدس إلى الوجود، حيث ارتبطت إلى حد كبير فكرة الإرهاب بفكرة المقدس الغامضة "فالمقدس خطير إذا وضع في قفص بدلا من علبة زجاجية".

"إضافة اللاحقة (ist ) للمصطلح الدال على الإرهابي في القاموس الدولي، تشي ، بنحو ساخر، بنوع من الفلسفة ، غير أنها فلسفة تدور حول نزع الأحشاء وقطع الرؤوس وهكذا هي فلسفة مفلسة." كما يقول إيجلتون بشكل ساخر أيضا. ويستطرد: "ربما ترمي صفة إرهابي إلى جعلك تبدو مدعيا وشريرا أيضا. وبهذا المعنى، فهي مضللة بنحو خطير. فالإرهابيون، سواء أكانوا يعاقبة أو من نوع إرهابيي زمننا الحديث، وسواء أكانوا إسلاميين أو مؤيدين في البنتاغون لـ "الصدمة والرعب"، أو من القائلين بنظرية المؤامرة التي تعج بهم تلال داكوتا، لا تخلو جعبتهم بوجه عام من الأفكار، مهما كانت تلك الأفكار خطيرة أو منافية للعقل والطبيعة، فإرهابهم إذن ليس إلا وسيلة تساعدهم في تنفيذ رؤاهم السياسية، وليس بديلا لها.".