Atwasat

نبوءة الأشوري

سعاد الوحيدي الإثنين 16 ديسمبر 2019, 11:20 صباحا
سعاد الوحيدي

يسمح المقهى العلوي لمعهد العالم العربي بباريس، للمرء أن يطل على الوجود. وأن يسكن سماء المدينة العامرة بالنور والحريّة. وحيث اختار سركون بولص (شاعر العراق الكبير)، أن نحتسي قهوة المساء، في المكان الأقرب لقبة السماء كما قال، وفق ما يليق بالحديث عن "تو فو" الذي يكتب في الصين كالآلهة.

كانت القوات الأمريكية قد دخلت بغداد (فيما عرف بحرب تحرير العراق عام 2003)، دون أن تنتظر قرار الأمم المتحدة بالخصوص. ورغم متعة الاستماع لسركون وهو يسرد سر قصيدته عن وجع "تو فو" في المنفى، (والتي تؤسس دون شك لواحدة من أجمل قصائده، وأعمق ما كُتب عن التيه والحرب في العربية). إلا أنني لم أتمالك نفسي عن سؤاله كيف يتعامل مع تعابير طارئة عن وطنه مثل: تحرير بغداد، (وهو المعارض الراحل عبر مسافات الكون في وجع متخثر). لكنه لم يجب. واكتفى بأن مد يده إلى دفتر ملاحظاته، وانتزع قلمي. وأخذ يكتب، مستلهماً مقولة لباول تسلان: "الموت هذا سيدٌ من ألمانيا":

"هذا سيدٌ"
****
الموت
هذا سيّدٌ
من أمريكا
جاء ليشربَ
من دجلةَ
ومن الفرات.

*
الموت
هذا سيدٌ عطشان
سيشربُ كلَّ ما في آبارنا
من نفط، وكلَّ ما
في أنهارنا
من ماء.

*
الموت.
هذا سيَّدٌ جائع
يأكلُ أطفالنا بالآلاف
آلاف بعد آلاف.

*
هذا سيّدٌ
جاء من أمريكا
ليشرب الدم
من دجلةَ
ومن الفرات.


*
ثم أعاد لي القلم، ومد لي ورقتين من ذهب، في متنهما هذه القصيدة؛ ثمينة المعنى، رائعة المحتوى، شديدة الأهمية. لن تتكرر، (وقد غادرنا سركون إلى مثوى آخر، تاركاً بغداد تتوجع بالحزن والانتظار). القصيدة التي صارت تبدو لي اليوم، كلما أمسكت بها منقوشة بخط يده، وكأنها نبوءة لرجل على مسافة من الموت.

كان موجوعاً وجع المطعون في الظهر، (وقد ولد عراقياً، وعاش أمريكياً)، وإن تعذر عليه الخوض في ذلك. فهو شاعر، مترجم للشعر، عاشق للشعر، ولا يتنفس غير الشعر، بحسب كلماته. وبالتالي فإن الاقتراب من السياسية خارج دائرة الشعر، تشكل بالنسبة له خيانة للقصيدة. مع ذلك أخذ يُتمتم لي ذاك المساء بأسى:

"إن أمريكيا لو أمطرت العالم بالشعر، لاستطاعت أن تغزو كل شبر من الأرض. لكن القنابل لا تزرع غير الموت، والحب لا يحب الموت".
وأخذ يسترجع كيف أنه سار على الأقدام، ودون هوية أو جواز سفر، من بغداد إلى بيروت. قاطعاً الصحاري والفيافي والأخطار، لكي يحصل على نصوص شعراء أمريكيا، في مكتبة الجامعة الأمريكية. وأنه عكف يترجم أعمال عمالقة الشعر الأمريكي للغة الضاد دون كلل أو ملل، وكأنها المهمة التي خُلق من أجلها. وأنه من بيروت واصل الإبحار حتى بلاد هؤلاء الشعراء، لكي يلتحق بعوالمهم الأسطورية. (غادر بولص عام 1969 إلى الولايات المتحدة، والتحم في سان فرانسيسكو مع جماعة الـبيتنيكس، بعد أن كان مُغرماً بهم عن بعد). وشدد في نبرة امتزج فيها الحب والسخط: "وهذه أمريكيا التي اخترتها، أرض الشعر والحب والحريّة. أما "السيد الأمريكي" الذي يزحف نحو بغداد اليوم، فأنا لا أعرفه، ولا أريد أن أعرفه".

بدا لي سركون بولص يومها بغدادياً حتى النخاع، عراقيا لا منازع.... وهو ما انفك يؤكد أن له وطناً واحدا "لأنك لن تستطيع أن تملك وطناً مرتين". لكنه استمر غريباً، بعيداً عن بغداد. يتنقل كالنوارس بين عواصم العالم. وحتى وافته المنية، بعد مرض، عام 2007 في برلين، ووري الثرى في سان فرانسيسكو، حيث كان له أن يعيش حياته وشعره، وحبه للعراق.

كتب يومها صديقه الشاعر الفلسطيني راسم المدهون: "هو ليس واحدا منا، هو أجملنا. ربما لأنه كذلك لا يليق به الموت، إذ هو يجمّل الموت ويجعله أقل وطأة حين نراه يصل رقبة الأجمل سركون بولص.... هو الطالع من أرض السواد كما الفجرالأبيض وريش الحمام الأبيض والقلوب البيضاء". وكان هو القلب الأبيض، صديقي الأقرب والأجمل.