Atwasat

نبضات متقاطعة: 13 – "كرشة" معلبة وكباريهات

محمد عقيلة العمامي الإثنين 16 ديسمبر 2019, 11:16 صباحا
محمد عقيلة العمامي

تهاليل الرخاء من جراء رفع المرتبات، سنة 1962، ثم الزيادة الثانية في منتصف الستينيات، جعلت الوكلاء التجاريين يطوفون على محلات تجارة الجملة يعرضون سلعا لم يعتد مجتمعنا على معظمها من قبل، وكثرت المحلات التجارية وتنوعت سلعها حد الدهشة؛ فلقد شاهدت شخصيا علبة "كرشة" مسلوقة! أذكر أنني اشتريتها رفقة الحاج سالم محمود النوع ونحن في طريقنا إلى أمسية مع رفاقنا. كانت العلبة مستوردة من إيطاليا، ومعروضة بمحل سي عوض شمام، الذي لا يفصله عن السوق الجديد الذي سمي فيما بعد بسوق الربيع، حيث تتوفر (الكرشة الطازجة) سوى بضعة خطوات!.

ولم يعد (سي محمد الفقي) يحلق رؤوسنا، عند ناصية قهوة سي عقيلة بشارع نبوس بقطعة زجاجة تشحذ بطريقة ماهرة وفعالة، ولم يعد عدم لبس (الشنة) أو (المعّرقة) حرام! واختفت السراويل التي تعد من أقمشة أكياس قمح النقطة الرابعة! ولم يعد أمر نهب كسر الخبز الأبيض من التلاميذ المترفين في حصة الفطور سطوا يوميا، وأخذت أطباق الخبز المعجون والمختمر في البيت تختفي من شوارعنا، وبدأت أفران أو (أكوش) عيت امنينه تقفل تباعا، ولم يعد خبزهم "من الطبق للكوشة". سي الصالحين انتقل من كوشة شارع سنيدل إلى سيدي حسين، يعد الرغيف المصري، وأقفلت كوشة شارع محمد موسى ولم تعد مباريات المصارعة تقام أمامها للفت انتباه بنيات شارع (فياتورينو) ومصراته الجميلات. وكوشة التومي أصبحت تعد خبز دقيق (الفارينا) الأبيض. وامتلأت محالات توريد الغذاء المعلب والفواكه، والمكرونة الإيطالية، وأرز أنكل بينز الأمريكي، أو رز (عمي) مثلما تسميه الحاجة وافية، و (النودلز الصينية) التي تستخدم كـ"مكرونه أمبوخه"، و(السواري والسراويل العربيات) المصنوعة في الصين تملأ سوق الجريد، جنبا إلى جنب الراديوات الترنسستر .. وأشياء يصعب حصرها.

وأصبحت الخبزة البيضاء، في كل مكان، ولم يعد أحد يلتقط كسرة الخبز الملقاة في الشارع، ويقبلها معتذرا، ويضعها على حافة أقرب نافذة، واختفت (قفف القطامة وبقايا كسر الخبز الجافة) من البيوت، وأخذ الدجاج المخوزق بقضيب يلف حول لهب النار في وضح النهار، ومن ميدان سوق الحوت انتشرت مطاعم الدجاج المشوي تحت أقواس الفندق! الدجاج الذي لم نكن نراه إلاّ بعدما تلد لنا أمهاتنا أخا أو أختا جديدة! فهو فقط ومنقوع الحلبة ما يعوض الأم، مثلما تقول جدتي زمزم، ما فقدته من دم وجهد أثناء الولادة! أما البيض، الذي لم نكن نأخذ غايتنا منه إلاّ في الربيع، من بعد أن تلونه لنا أمهاتنا، ونتبارى بنقره، ومن يكسر بيضة الآخر يأخذها!. وأصبح يصلنا في صناديق خشب من اليونان، ولو لَمْ ينشر رجل الأعمال الذكي عوض الفيتوري، ثم لحقه أخرون، البيض من مشاريع التفريخ والتبيض لخسرت اليونان أشجارها، بسبب صناعة استخدامها في صناعة صناديق البيض. والسيارات لم تعد (بدفورد) و(بيجو) و(فيات) و( فورد تاونس) فلقد انتشرت التويوتا التي لم يستطع حتى وكلاؤها آل السوسي حصر موديلاتها.

وألحقت الدولة بعلاوة العائلة، علاوة السكن، وتقررت أن تكون قيمتها بسقف حده 50 جنيها - كانت العملة جنيها وليست دينارا- فلم يقدم أحد عقدا بأقل من خمسين جنيها! حتى لو كان المبني كله لا يساوي قيمة تلك العلاوة الشهرية! لم يعد في سوق الحارة زوائد الشاة وتباع كما تعارف عليه بـ(العُرم) وبدأت لحوم العجول من اللحوم المتداولة، في مجتمع كان لا يعترف بلحم سوى لحم الحولي الوطني!.

وأصبحت في بنغازي خمسة (كباريهات) بفنانات يأتينها من اسبانيا واليونان، نادي (الأولمبيا) الليلي - نادي هي التسمية المهذبة لكباريه - كان في المساحة التي تقع أمام مدرسة شهداء يناير، ونادي (الريفيرا) ويقع في جليانة كملحق لفندق قصر ليبيا الذي ظلت أطلاله قائمة حتى تسعينيات القرن الماضي، بجانب سوق السمك الآن. أما كباريه (اللوكس) في الطابق الأرضي حيث مبنى مصلحة الجمارك الآن، أما النادي الرابع فكان في فندق البرينتشي، وبجانبه صالة قمار، أما الخامس فكان في فندق الناشيونال وكان يقع في مبني مصلحة المواني، ولكنه تحول إلى بار!

وأصبح في بنغازي حوالي خمسة بارات حديثة بالإضافة إلى ثلاثة متواضعة كانت قبل الطفرة، وجميعها ممنوع عليها بيع الخمور لليبيين! ولكن المنع متروك لسلطة البوليس الذي في الغالب لا يتدخل إلاّ إذا قامت مشاجرة، وكان بالمدينة ثلاثة محلات تبيع الخمور- لغير المسلمين- قبل الطفرة، فأصبحت خمسة، وأغلبها يبيع، ولا يبيع، للمسلمين إذ ظل القرار حسب مزاج صاحب (الكوبراتيفا). ولم يطل الأمر حتى أصبح السفر إلى اليونان، ومصر وبيروت أسهل من السفر إلى (تيكا).

ولا ينبغي أن نغفل أن ثمة اختلافا بسيطا ما بين ما كان يحدث في المنطقة الشرقية، بنغازي تحديدا، والمنطقة الغربية لأسباب فرضتها قوانين وأحكام وحالة اجتماعية، كانت بسبب الجالية الإيطالية الكبيرة هناك، إذ كانت البارات العامة المنتشرة في شوارع طرابلس، تعمل بتراخيص، وأوقات محددة لفترات عملها والخمور ليست ممنوعة، بل تطلبها من الجرسون الأنيق، وأنت جالس في بار (جاريبالدي)، أو على إحدى مناضد البار المصطفة على رصيف شارع عمر المختار، ولا يبتعد كثيرا عن إيدك الشمال، مسجد سوق الترك، وبينكما وزارة العدل وإدارة البوليس. ولكن الأمر لم يكن كذلك في بنغازي، وعندما أرادت حكومة برقة توحيد القانون لتكون بنغازي مثل طرابلس تصدى لهم الشيخ الفاضل عبد الحميد الديباني مبررا: "أنه لا يجوز تحليل ما حرمه الله" فتقرر أن يغض الطرف ويستمر الحال على ما هو عليه.

والأمر لم يكن مقصورا على بنغازي، وطرابلس، فما إن تصل بن جواد حتى تجد بارا تديره عائلة إيطالية، والحقيقة أنني لا أعرف من بعده بارا سوى في مصراته. ولا أذكر أن ثمة بارات في شرق ليبيا سوى في البيضاء، ولا أعلم إن كان هناك بار في درنة، ولكنني أعرف أن طبرق بها!