Atwasat

سطوة الآيديولوجيا (2- 2)

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 15 ديسمبر 2019, 12:33 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

يصر محمد خليفة على الصفة الإسلامية للجابري في مواجهة الصفة غير الإسلامية لطرابيشي. والحقيقة أن الجابري لا يتعامل في نقده العقل العربي من منظور ديني إسلامي، وإنما من منظور إبستمولوجي – علمي – علماني. يقول الجابري: "ونحن عندما نستعمل عبارة العقل العربي فإننا نستعملها من منظور علمي نتبنى فيه النظرة العلمية المعاصرة للعقل [...]، بل نحن نجتهد في التزام التصور العلمي في أقصى مراتبه" (1: 42). ومن المؤكد أن "النظرة العلمية المعاصرة للعقل" ليست إسلامية بأي حال. وللنظر ما يقوله المفكر الإسلامي المغربي د. طه عبد الرحمن بالخصوص:

ولا يخفى أن الفصل بين القيم الروحية والممارسة العلمية الذي [كذا] اشتغل بها الجابري مستمد من مبأ العلمانية السياسي [...] ويكفي أن نتتبع مراحل تقويمه للتراث لكي نتبين آثار هذا المبدإ في أحكامه على التراث، فقد أقصى الإنتاج العرفاني إقصاء تاما، واعتبره دخيلا على الثقافة العربية الإسلامية. ومعلوم أنه ليس في التراث قسم أشد منه تعلقا بالقيم الروحية والمعاني الربانية، ولا أشد أخذا بهذه القيم والمعاني في العلوم؛ ثم جنح إلى التحفظ بشأن القسم البياني واعتبر علومه لا ترقى إلى درجة اليقين. ومعلوم كذلك أنه ليس في التراث قسم أشد منه تشبعا بالقيم العقدية، ولا أشد تمسكا بهذه القيم في العلوم؛ ولم يستثن إلا القسم البرهاني [...]؛ فإذن، يكون المعيار الذي استبعد به الجابري العرفان واستضعف البيان واستبقى به البرهان الخالص هو، في نهاية المطاف، مبدأ العلمانية (1: 37).

ويضيف د. عبد الرحمن: "وقد صار الجابري مؤخرا إلى القول بأن مفهوم العلمانية مفهوم يكتنفه الالتباس ويحسن تجنبه، مستبدلا مبدأ العقلانية والديموقراطية مكانه، لكن هذا الاستدراك لا يفيده كثيرا، لأن تقويمه للتراث قد خضع لهذا المبدإ أيما خضوع، فجاء تداركه بعد فوات أوانه" (1: 37- 38). ولعل محمد خليفة، بإصراره هذا، يريد تطبيق هذا الاستدراك (الذي يتجنب استخدام المصطلح دون إنكار المفهوم) بأثر رجعي.

بصدد تركيز طرابيشي "نقده على هفوات الجابري على مستوى المراجع و/ أو الاستشهاد بها نقلاً عن آخرين، ودون ذكر ‘‘المرجع الواسطة‘‘، وهو ما يجعل القارئ يعتقد أن الكاتب يمتح من أمهات المراجع وليس من هوامش الشروح!" يرد محمد خليفة بالقول: " وبالرغم من أن مثل هذا المسلك مما يضر بالأمانة العلمية، إلا أن العمل به معروف في عالم الكتابة... [وهو] قد يضر بشكليات بحث الجابري لو كان يقدمه لنيل درجة علمية، لكنه على المستوى الموضوعي لا يستحق العناء الذي كابده طرابيشي، وبذا يكون هجومه على ما بناه الجابري من زاوية ابستيمولوجية غير ذي جدوى موضوعيًا، وقليل الأهمية علمياً". هنا يتحول محمد خليفة من مجال النقاش الفكري إلى مباديء مهنته كمحامٍ يبحث عن الثغرات القانونية، أويركز على الظروف المخففة، لينقذ موكله من العقاب أو يخفف عنه الحكم. لكن هذا "الدفع" مرفوض لدينا. ذلك أن الجابري ليس كاتبا شابا يتلمس طريق الكتابة الفكرية حتى نتغاضى عن أخطائه، ولا حتى أكاديميا مختصا يكتب عمودا مكثفا في صحيفة حتى نعفيه من الإحالة إلى مصادره ومراجعه الفعلية، وإنما هو أكاديمي متمرس ومفكر مجتهد كرس نفسه لمشروع كبير مثير للاهتمام ومحفز على التفكير، لم يسبقه إليه مفكر عربي آخر، وهو لا يهم القاريء العادي البسيط، بل يهتم به القراء المثقفون الباحثون عن المعرفة والمجتهدون في بناء أنفسهم معرفيا، وأكاديميون متخصصون يراجعون مثل هذه المشاريع والأعمال ويعودون إلى المضان للاستزادة المعرفية. لذا، فهي، بهذا المقياس، فضيحة على المستوى العلمي، كما على المستوى الأخلاقي.

لا يسمح المجال هنا بتتبع الأفكار الواردة في مقال محمد خليفة المشار إليه، ونريد أن نختم بتعليق حول جملة "العصاب الجماعي" التي استثمرها محمد خليفة في أكثر من مقال من مقالاته لما أسميه "التحريض" ضد جورج طرابيشي.

يقول محمد خليفة:
"الإسلاميون في نظر طرابيشي مصابون بعصاب جماعي منذ هزيمة 67. وهذا العصاب الجماعي (الإسلام) ينتج فكرا بائسا اسمه الفكر الديني...".

يقول طرابيشي:
"عندما نتحدث عن عصاب جماعي عربي، فإننا لا نعممه ليشمل جميع العرب في جميع بلدانهم وبجميع أجيالهم وطبقاتهم، بل نخصصه لنقصد به حصرا الخطاب المعصوب الذي تنتجه وتعيد إنتاجه شريحة واسعة من الانتلجنسيا العربية منذ الرضة الحزيرانية. وبما أن عصابية هذا الخطاب تكمن في تثبيته على الماضي، فمن الممكن إذن تحديده بمزيد من التخصيص بأنه خطاب التراث أو الخطاب التراثي في نتاج الانتلجنسيا العربية المعاصرة – أو ما يسمي نفسه أيضا بخطاب الأصالة" (2: 11).

وفي مكان آخر يقول: "ومن منظور علم نفس المعرفة قد نستطيع أيضا أن نربط رواج كتابات الجابري بظاهرة ‘‘العصاب الجماعي‘‘ الذي رصدنا أعراضه لدى شريحة واسعة من الانتلجنسيا العربية الناكصة إلى التراث، بعد الهزيمة الحزيرانية، نكوصها إلى أب حام أو أم كلية القدرة" (3: 12).

وإذن فجورج طرابيشي لم يأت في الشاهدين المذكورين أعلاه لا على ذكر الإسلاميين ولا على الإسلام ولا على الفكر الديني، مثلما يريدنا محمد خليفة أن نعتقد. إضافة إلى أن طرابيشي، بحكم التزامه الموضوعية، تجنب التعميم.

والحقيقة أن في كلام محمد خليفة مغالطة هنا، تتمثل في توحيده بين الإسلاميين والإسلام. فالكلمة الأولى أصبحت مصطلحا دالا على الإسلام السياسي حصرا، وليس على المسلمين جملة. في حين احتفظت اللفظة الثانية بدلالتها على الدين الإسلامي في موارده المؤسسة.
ما أخلص إليه هو أنه ليس جورج طرابيشي من ينطلق من موقف آيديولوجي في نقده للجابري، وإنما محمد خليفة هو الذي يحمل موقفا آيديولوجيا واعيا ومسبقا ضد جورج طرابيشي، ودائما لكونه غير مسلم.

ملاحظات ومصادر ومراجع
* يحيل الرقم الأول إلى المصدر أو المرجع في القائمة أدناه، ويحيل الرقم الثاني إلى الصفحة المقتبس منها.
1- الدكتور طه عبد الرحمن. تجديد المنهج في تقويم التراث. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء – المغرب. ط3. 2007.
2- جورج طرابيشي. المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي. دار الريس- لندن. 1991.
3- جورج طرابيشي. نظرية العقل. دار الساقي. بيروت- لندن. ط4. 2011.