Atwasat

من يوليو إلى نهاية الموسم الحرارة والشمس والأيام الطويلة

سالم الكبتي الأربعاء 11 ديسمبر 2019, 06:59 مساء
سالم الكبتي

ثم يبدأ المنتصف الثاني من كل عام، يوليو ذلك العام والأحداث التي تفعم أيامه بلا انقطاع، والليالي والأخبار وحركة البشر والتاريخ، يوليو ذلك العام مثل كل عام، مثل المواسم التي سبقت، مثل كل يوليو، مثل كل صيف، وإن اختلفت التفاصيل لكن خيوطها تظل تتداعى في فصول وأيام الزمن والتاريخ، قد تختفي، قد تبهت، قد تغيب، قد وقد، غيرأنها تتجدد بطريقة أو بأخرى، في صورة، في حدث، في حرب، في مشهد، في مناسبة، في فرح لا يدوم، في حزن لاينقطع.

سبعون (2019) أو ما يماثلها تمر، لاهبة وساكنة ومتحركة وراكدة، تطوي الصفحات وتظل تلوح كالوشم في ظاهر اليد، كما أشار ابن العبد، شاعر العمر القصير الذي أكد في كثير من القصائد أن الأيام ستبدي لك ما كنت تجهله، والتفاصيل والخيوط والمشاهد أمامنا تتلاحق وتتحرك، الفلسفة والشعر والحكمة والرياضيات والمعادلات تتابع الزمن لكنها لا تستطيع اجتيازه أو قطع الطريق أمامه.

فى منتصف الليل منذ سبعين عاماً والمزيد من الأيام والليالي، الثامن من يوليو 1949، كان الأمير إدريس يستعد في صباح اليوم التالي لمغادرة بنغازي إلى لندن، طرق باب قصره ثلاثة من الشبان المصريين فروا من القاهرة ووصلوا إلى بنغازي، عزالدين إبراهيم ومحمود الشربيني وجلال سعده، طلبوا اللجوء السياسي في برقة التى كان أميرها، كانوا ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين واُتهموا بقضية الأوكار (جمع وتخزين أسلحة وذخائر في أحد أحياء القاهرة)، لم تكن لهم علاقة من قريب أو بعيد بمقتل محمود النقراشي باشا كما يتردد دائماً في سبب فرارهم إلى بنغازي، وعلى الفور وافق الأمير على طلبهم، حماهم وأجارهم بعد أن قرأ الالتماس الرقيق المكتوب بخط جميل قام به عزالدين إبراهيم: «نحن ثلاثة من شباب هيئة الإخوان المسلمين بمصر الشقيقة أصابنا من الاضطهاد والعسف ما أصاب كل من يمت بصلة إلى هذه الجماعة التي لم يكن لها من مقصد إلا إقامة الدولة على قواعد الدين بتطبيق الشريعة الإسلامية الغراء، فلم يكن أمامنا يا صاحب السمو، وقد اشتدت بنا حركة الظلم والتنكيل- وإن شر الرعاء الحطمة - إلا أن نهاجر إلى بلد نستطيع العيش فيه أمنين مطمئنين..».

لم يفلح البوليس السياسي المصري في القبض عليهم قبل الفرار، ولم يكن لهم من سبيل سوى التوجه إلى حمى الأمير السنوسي، قالوا له: «حقيقة إننا متهمون وإن الحكومة جادة في البحث عنا ولو كنا مطمئنين إلى أن العدالة في مصر تأخذ مجراها وأن أهواء السلطة الحاكمة غير متحكمة فيها لما تحملنا كل هذا السفر الطويل الشاق، لقد جئنا إليكم نطلب الأمان في وقت عز فيه على الفرد أن يجد الطمأنينة على حياته ونفسه إلا في كنف سموكم والأمر لكم، وإننا رهن إشارتكم وطوع نصحكم..».
الشباب الثلاثة لم يكونوا على معرفة بالأمير، أو بالبلد أو بأحد به، رمتهم الأقدار في ليل يوليو وكان شهر رمضان يتسق معه صياماً وحراً، وافق الأمير على اللجوء دون النظر إلى أية أسباب أخرى، حزبية أو سياسية، فقط وجه اهتمامه إلى الناحية الإنسانية والاستجارة به، أكد قبل سفره لمدير الأمن العام في بنغازي وكان من أقاربه، الصديق عابد السنوسي على حمايتهم خوفاً من أْن تحصل فيهم «هتيكة» كما كتب بخط يده، اشتعلت أزمة سياسية، احتجزت مصر بعض الليبيين، بشير لنقي وعبدربه الغناي، كانا في القاهرة لأعمال تتصل بالتجارة.
ناقش المؤتمر الوطني البرقاوي الموضوع وأبدى رفضه للسلوك المصري، مشيراً إلى أن قبول الاستجارة من الشيم العربية، ولم يتراجع الأمير عن موقفه، ظل المصريون الثلاثة في بنغازي إلى يوليو 1952، حركة الجيش في مصر، عادوا وزالت عنهم التهمة.

وفي يوليو، تتداعى الصور، الثامن منه العام 1951، مظاهرة عنيفة لجمعية عمر المختار في بنغازي تتسبب في اعتقال بعض قادتها، يتم حل الجمعية ومنع نشاطها، وتشتد الحرارة في المنطقة، اُغتيل رياض الصلح رئيس وزراء لبنان وبعده بأيام الملك عبدالله في المسجد الأقصى، وجراء ذلك تنال الحماسة طالباً في القاهرة هو عبدالرحيم النعاس ويعلق في رسالة إلى أحد أصدقائه في ليبيا بأنه يتمنى أن يحدث ما تم مع الصلح وعبد الله للأمير في بنغازي، يلقى عليه القبض ويبعد خلال العطلة الصيفية إلى الكفرة، يصحبه الشاويش يونس بلقاسم، يظل هناك فترة من الأيام ثم يعفى عنه لمواصلة دراسته، وتشاء الصدف أن يكون ضمن القادمين من الكفرة مع الموكب الذى يحمل رفاة المهدي السنوسي والد الأمير، وبعدها العجاج ويعود الركب إلى نقطة البدء بعد توقف في قمينس ويمضى النعاس لتكملة دراسته كما لو أن شيئاً لم يحدث، مجرد حماس في يوليو، في الصيف القائظ!.

عبر هذه الاغتيالات يتهم القوميون بأنهم وراء ذلك والسبب الرئيسي ضياع فلسطين، الأسطوانة المكسورة التي تبقى تتردد وراء كل حدث فيما بعد، ويزداد الخطاب القومي بعد يوليو 1952، حركة الجيش، الاتحاد والنظام والعمل، وارفع رأسك يا أخى، وتلتهب المنطقة في الصيف والشتاء، والربيع والخريف، النار تبدأ دائماً من يوليو تلك الأيام ومابعدها، ثم تفوح روائح الشياط!
فى الرابع عشر من يوليو 1958، تغييرعنيف يحدث في العراق، يسقط النظام الملكى، مذابح وضحايا ثم ثورة تأكل بعضها بلا توقف، أنهار من الدماء تسيل بعنف مثل دجلة في القريب والبعيد.
قبل ذلك كان نوري السعيد رئيساً للوزراء، من الدهاة السياسيين في المنطقة، ذات يوم بعيد في إحدى جلسات البرلمان العراقي وخلال الاستراحة ظل أحد النواب يناقشه كثيراً عن المناضلين والوطنيين.
كان أغلبهم ممن يدعون إلى الكفاح والنضال بلا هوادة، كان السعيد يعرف ذلك جيداً فيما واصل النائب الإلحاح على الباشا أن يعطيهم الفرصة ويتيح لهم المجال في العمل السياسى، ورغم بعض الصمم الذى كان يعتريه استمع إليه جيداً، ثم أجابه الباشا في هدوء: «عيني أنت ما تعرف هؤلاء زين، أحنا يا عينى مسكرين على كثير من البالوعات لو نفتحها عيني تصير الرائحة كريهة، ماتتحملوها، إحنا متحملين بابا، إحنا مسكرين عليكم أوساخ كثيرة لو طلعت ما يسير خير!».

كان ذلك قبل الثورة، قبل أن تسيل الدماء ويسحل السعيد وهو متخفٍ في عباءة نسائية، وقبل أن يفوح مزيد الروائح في المنطقة، الدهاة يعرفون رائحة البالوعات أكثر من غيرهم.

حكايات وقصص تختفي وتلوح على الدوام، وراء الثورات والتقلبات المتواصلة للزمن القريب والبعيد، وخلف أبعاد وقضايا اللجوء الإنساني المختلفة الذي تغطيه تعصبات وانتماءات تكرر صوت غيرها ممن لا يقف على حركة التاريخ جيداً وينكر الأدوار عن أصحاب الفضل الحقيقيين في ظروف صعبة ومعقدة، الأيديولوجيا المعاصرة والمتعصبة،، والحاقدة بلا مبرر تعوزها الأمانة في أوقات عديدة بلا مبرر.

وفي يوليو.. وغير يوليو على مدى الزمن حدث ويحدث الكثير!