Atwasat

اليانصيب الليبي

سالم العوكلي الأربعاء 11 ديسمبر 2019, 12:02 مساء
سالم العوكلي

أحب قراءة مقالات الكاتب جمعة بوكليب، وأستمتع بها وأزداد معرفة، وهو من الكتاب الليبيين القلائل الحريصين على وضوح الفكرة ودقة الصياغة وسلامة اللغة، ولديهم المقدرة على الإحاطة بالفكرة من جميع جوانبها في أقل مساحة، وأدرك مثل هذا الحرص على دفع الالتباس حين تتولد داخلي أسئلة أو ملاحظات في بداية القراءة، ثم أجد إجاباتها أو احترازاتها حين أنتهي من قراءة المقالة، وهي قدرة متأتية من حرفية عالية تشبه قدرة الفنان على تشكيل منحوتته بدقة وعناية، تجعل من كل لمسة (جملة) خطوة نحو تجسيد الشكل المعبر عن محتواه. ومهما كانت الفكرة أليفة لنا إلا أن وضعها داخل شبكة من الأسئلة أو تحت بقعة ضوء مركزة يجعلها جديدة وثرية بالمرسلات والاستفهامات. كما في مقالته الأخيرة المنشورة بالعدد السالف من جريدة الوسط (يا نصيب) التي تحيلنا بداية من العنوان إلى تعبير دارج في اللهجة الليبية حين تفصل (يا) النداء عن المنادى (نصيب) كنوع من الرجاء والاستئناس قبل الشروع في مهمة، ولكن بمجرد أن تضاف أل التعريف لياء المنادى تتحول إلى مفهوم آخر عالمي، يتعلق باليانصيب كـ«واحد من وجوه القمار» الذي أثمته الأديان وانحنت له القوانين حين عجزت عن مكافحته؛ مثله مثل نوادي القمار التي أصبحت تشكل جزءا من اقتصادات بعض الدول.
يقول جمعة في مستهل مقالته: «الذين ابتدعوا اليانصيب حرصوا على إضافة وصف الخيري له، لإضفاء منحى أخلاقي واجتماعي يجعلانه مقبولا لدى الناس، ومرغوبا منهم، بكونه مختلفا عن ممارسة رذيلة لعب القمار». وذكرني هذا الاستهلال بما سبق أن تطرقت إليه من ألعاب اللغة، أو ترويض مفردة منفرة بمفردة ذات جاذبية، كي يصبح السياق مستساغا دون أن يتغير المضمون (الشرير أو المذموم)، وضربت أمثلة مثل: النيران الصديقة، القنبلة الذكية، الحرب النظيفة، العنف الناعم، الديكتاتور العادل، رصاصة الرحمة، الفوضى الخلاقة.. وغيرها من محاولات نزع فتيل المفردات القابلة للتفجر أو الخادشة للأذن.
في صدد تطرق المقالة إلى حكاية اليانصيب في ليبيا، الذي ارتبط بالوجود الاستعماري، حيث المقامرة مؤثمة وفق العقيدة السائدة، غير أن المكاسب التي يسيل لها اللعاب تجعل البعض يغض ضميره عن هذا الإثم، مثل الذي يضطر إلى أكل الآلهة المصنوعة من التمر حين يجوع، أو ينتهك ضريح قديس للوصول إلى العسل داخله. عن اليانصيب في الذاكرة الليبية يقول جمعة: «أذكر أن اليانصيب كان من ضمن المناشط المجازة قانونا، في مدينة طرابلس، منذ فترة الاستعمار الإيطالي، مع محلات بيع المسكرات، ونوادي القمار، والملاهي الليلية. وحين حظيت ليبيا باستقلالها، لم تقم الدولة الجديدة بإلغاء ما كان سائدا من تلك المناشط، على أرض الواقع، بل تركتها على حالها، مع تغيير طفيف يتمثل في حصر ملكيتها وإدارتها على أفراد من غير أتباع الديانة الإسلامية. وبالتالي، ظلت حكرا على المستوطنين الإيطاليين، والجالية اليهودية. وكانت معظم تلك المحلات تبيع تذاكر اليانصيب. وفي مساء كل يوم خميس، تقام منصة خشبية بميدان الجزائر، بطرابلس، ويوضع فوقها برميل خشبي كبير يسهل تدويره توضع به الأرقام. ويؤتى بصبي من صبيان مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية، المخصصة منذ العهد العثماني الثاني، لإيواء الأطفال اليتامى والفقراء وتعليمهم وتأهيلهم مهنيا، ليقوم بسحب الأرقام الرابحة من البرميل، أمام الناس المتجمعين حول المنصة. ولدى سحب الصبي لورقة تحمل رقما يقوم بتسليمها إلى شخص إيطالي، يقوم بفتحها، وإعلان الرقم للجمهور، وهكذا. إلا أن نظام القذافي، أصدر قوانين بإلغائها جميعا».
ويغريني هذا السرد لفترة اليانصيب القصيرة التي توقفت مع حدوث الانقلاب العسكري للاستطراد فيما يخص ثقافة المقامرة التي تفشت في السياسات العامة فيما بعد. فما حدث بعد الانقلاب هو منع هذا النوع المقنن من اليانصيب المرتبط في عقيدتنا بالقمار، وبداية مرحلة طويلة من القمار والمقامرة، استبدلت بالبرميل الخشبي على المنصة برميل النفط، الذي جعل القمار ينتشر في جميع أنحاء البلد وإن كان غير مرئي، واستبدلت بالمنصة منصات متنقلة يرطن فوقها الزعيم بمقامراته الفكرية التي خسرتنا الدولة والمستقبل، والفارق أنه لم نقرأ في الصحف، كما يصف جمعة تلك الفترة: «أخبارا عن أناس فقراء، وقد صاروا بين عشية وضحاها من أصحاب الملايين. الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه أمام الغيرة، وانتشارها». وكان أصحاب الملايين يولدون في العتمة من ذوي الولاء والقرابة، بينما الأغلبية الفقيرة التي لم تعرف طوابير اليانصيب كانت تصحو مبكرا لتقف في طوابير المصرف وهي تدعو (يا نصيب)، لتقبض بضعة دنانير على الأحمر من المرتب الذي كان يتأخر شهورا طويلة، ومع الوقت تحولت الغيرة إلى حسد والحسد إلى كراهية والكراهية إلى وشايات، إلى أن وصلت إلى نزاعات دموية على المال السائب في هذا اليانصيب الوطني، الذي يدار ويدور في براميل النفط على منصة بمساحة الوطن.
القذافي الذي طالما اعتبر انقلابه (مقامرة) بحياته رغم كل السبل التي مهدت له كي يستولي على دولة مترامية الأطراف في ليلة واحدة دون أن تسال قطرة دم، لم يتوقف عن المقامرة وفتح منصات اليانصيب في كل جزء من العالم، وما كان يقامر به هذه المرة مصير شعب وحياته ومقدراته: في أيرلندا وأميركا اللاتينية والفلبين ودول أفريقيا، وفي كل مكان من العالم فيه شرارة نار تحتاج إلى برميل بنزين من النفط الليبي يسكب عليها. خاض حروبا ضد الطواحين على الحدود المصرية وفي صحراء تشاد وفي غابات أوغندا، قاذفا بالشباب الليبي وحتى تلاميذ المدارس في رمال ومستنقعات الموت، ودائما كان هو الرابح من طاولة القمار التي فرَدَها على مساحة العالم، فهو القائد الأممي وداعم حركات التحرر في العالم ومخلص البشرية... إلى أن فاز يانصيبه بمنصب ملك ملوك أفريقيا، متوجا على أولئك الملوك الفقراء؛ شيوخ القبائل المنسية، الذين يسكنون المغارات، وتحولوا في ليلة وضحاها إلى مليونيرات في لعبة اليانصيب الليبي التي لا يفوز بها سوى زبانيته في الداخل وأمراء الحرب والمتمردين في الخارج.
حين دخلت ليبيا عالم صندوق الاقتراع رمى الناخبون أوراقهم داخل الصناديق بما يشبه أوراق اليانصيب، وأفرزت هذه الصناديق أصحاب ملايين آخرين دون تعب وفي وقت قصير، بينما نزوح الملايين من الليبيين صوب خط الفقر ما زال مستمرا.